الأهرام
القمص أنجيلوس جرجس
الحياة فعل
حياتنا قصة من الميلاد إلى الوفاة، قصة نكتب نحن فصولها وأحداثها، يشاركنا فيها المحيطون بنا. يقول شكسبير فى إحدى مسرحياته: «إنما الحياة ظلال شاردة، ممثل تعس يظل يهذى على خشبة المسرح إلى أن ينتهى دوره فلا يعود أحد يسمع صوته. استغفر الله إنما الحياة أقصوصة يرويها أحمق، مليئة بالسعار والصراخ ولكنها لا تعنى شيئاً». وإن كانت هذه المقولة عبثية بقدر ما ولكنها تصف قصص الذين يولدون ويموتون دون أن يكون لهم دور فى الحياة مؤثر.

وهذا على خلاف ما أراد الله من خلقتنا أو من تدبيره للكون كله. فقد خلق الكون بكل دقة وحكمة ثم خلق الإنسان ليدير ما صنعه على الأرض، لم يخلقه ليأكل ويشرب ويموت، ولكن خلقه ليعمل ويدير ويكون له دور مهم فى الحياة. فيقول الله فى التوراة فى سفر التكوين (2: 1، 15): «فأكملت السماوات والأرض وكل جندها. وفرغ الله فى اليوم السابع من عمله الذى عمل... وأخذ الرب الإله آدم ووضعه فى جنة عدن ليعملها ويحفظها».

فالإنسان إذن فى تدبير الله له عمل مهم فى الحياة. ومن هنا يكون العمل ليس مجرد أخذ الأجرة فى نهاية العمل أو كى يكون الإنسان غنياً بالأموال، ولكن العمل له أعماق أخري. فالعمل هو فعل الإنسان، هو بصماته فى الحياة، هو ثمرة وجوده اليومي، حتى إن الكتاب المقدس يعلمنا: «أن الله سيجازى كل واحد حسب أعماله» (رومية 2: 6). والعمل هو الدور الذى تقوم به فى الحياة سواء لذاتك أو للآخرين أيضاً. وقد يظن البعض أن هدف العمل محصور فيما يجلبه من أموال وهذا خطأ فهناك من يعمل لأجل الآخرين ولأجل الحب.

فى إحدى قرى نورنبرج بألمانيا فى القرن الخامس عشر كانت هناك عائلة تتكون من والدين وثمانية عشر طفلاً فى حالة مزرية من الضيق والفقر، حتى إن الأب لم يعد قادراً على سداد احتياجات أطفاله من الطعام. بالرغم من هذه المأساة إلا أن الله قد أعطى للأخوين الكبار موهبة الرسم، واشتهرا فى القرية بتلك الموهبة فاهتمت بهما مدرسة القرية ونجحا فى إتمام دراستهما بتفوق.

وجلس الأخوان وسط عائلتهما الفقيرة يحلمان بإتمام دراستهما الفنية فى نورنبرغ، وسقطت من عيون الوالد دموع القهر وضيق ذات اليد فقد كان بالكاد يستطيع أن يطعم عائلته فكيف سيوفر نفقات الدراسة الباهظة بالأكاديمية الفنية.

وهنا جاءت فكرة للأخوين أن يجريا قرعة بينهما على أن يعمل أحدهما فى مناجم الفحم ويتكفل بمصاريف أخيه الآخر فى القرعة لمدة أربع سنوات فى الأكاديمية الفنية، ثم يعود الآخر ليتكفل بدوره بمصاريف أخيه. ووقفت العائلة تصلى وتطلب من الله أن يبارك هذه الفكرة، وصنعوا القرعة بين الأخوين. وفاز بها ألبرت ديور فذهب هو إلى الأكاديمية بينما ذهب أخوه الآخر إلى المناجم ليعمل بها أربع سنوات.

وتمر الأيام ويعود ألبرت فناناً ناجحاً ذا شأن فى عالم الرسم، وصنعت له القرية احتفالاً كبيراً مع عائلته. وبعد نهاية الحفل احتضن ألبرت أخاه وقال له: «لولا عملك وتعبك لما استطعت أن أنجح فى دراستى أو أحقق هذا التفوق، والآن حان دورك لتذهب أنت وتدرس وسأعمل أنا فى الرسم وسأبيع لوحاتى وأرسل لك المصاريف». ولكن ابتسم الأخ ابتسامة هادئة وقال وهو يحتضن أخاه: «يكفينى أنك أنت قد نجحت فلم يعد لدى أى إمكانية للتعلم أو الرسم». فانزعج ألبرت وبلهجة صارمة قال: «ما الذى تقوله لقد كان هذا اتفاقنا أن أدرس أنا أولاً وتعمل أنت ثم أعمل أنا وتدرس أنت. فموهبتك لا تقل عن موهبتى إن لم تكن أعلي».

فرفع الأخ يديه أمام ألبرت وقال له: «أربع سنوات فى المناجم حطمت عظام يدى فلم أعد أستطيع أن أمسك ريشة أو أتحكم فى القلم». وانهار ألبرت وهو يشعر بأنه قد سرق حلم أخيه وأنه قد استحوذ على كل شىء ولم يعد لأخيه شيئاً.

وتمر أيام وليال وألبرت يفكر فى قيمة العمل الذى صنعه أخوه فلم يعد يستطيع النوم. وفى ليلة قام من حجرته لعله يجد هواء يملأ به صدره، فالتفت إلى حجرة أخيه ونظر من الشرفة فوجده راكعاً يصلى، ويداه مضمومتان متضرعتان، وقد بدا عليهما كثرة التجاعيد وتكسير العظام، فتسارعت أنفاس ألبرت ودق قلبه بسرعة وشعر برهبة شديدة. وجرى وأخذ أدوات الرسم ووقف ليرسم تلك اليدين اللتين صارتا رمزاً للحب الباذل والعمل المتفاني. وتمر الأعوام لتصير هذه اللوحة هى أعظم لوحات الفنان العظيم ألبرت ديور الذى توفى 1528م. إنها بصمات الحب الذى يبنى الآخرين.

وهناك أيضاً الأعمال الروحية والاجتماعية فقد تنتهى خدمة أحد فى الوظيفة ويخرج على المعاش ولكن حياته تتحول إلى أعمال أخرى أكثر عمقاً وهى أعمال المحبة. فيخرج يخدم الفقراء والمساكين ويخفف من آلام المعذبين فتكون حياته العملية أكثر عمقاً بالحب. كما أن هناك أعمالا روحية أيضاً تدخل فى نطاق الحب العملى للـه فالصلاة عمل، والصدقة عمل، وزيارة المرضى والمتعبين عمل، بل الكلمة الطيبة التى تقال هى أيضاً عمل حب وخير.

وهكذا تكون الحياة الحقيقية حين يكون وجودك فعلا حقيقيا وعملا لتكتب قصة وجودك اليومى كفاعل حقيقى وليس ككومبارس فى تلك القصة. فإن أردت أن يكون لحياتك معنى فابحث عن رؤية وجودك بعقل مستنير بالإيمان، ونفس صافية بالحب لتعيش الحقيقة وليس غائباً عن الوعى أو اسما يكتب على الرمال تمحوه العواصف.

فهناك أموات ظنوا أنهم أحياء، اختاروا الكفن وكل الأشياء، ولم يختاروا أن يكونوا أحياء، أموات يتشاركون قبراً، يتصارعون على الفناء، أموات يصاحبون أمواتا، وبعد العمر وبعد صراخ الكلمات، وبعد الصراع على اللذات، وذبح كل شيء لأجل الذات، وبعد اللغو واللهو والتسكع فى الطرقات، تكون نهايتهم أنهم أموات عاشوا وصاروا أمواتا.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف