كنت فى المرحلة الابتدائية، عمرى حوالى ثمانى سنوات، ربما كنت فى الصف الثالث أو الرابع الابتدائى، قالوا: الحرب قامت.. أوقعنا عشرات الطائرات الإسرائيلية.. العشرات على المقاهى يسمعون البيانات العسكرية، هتافات وتكبير، لا أذكر مشاهد مسلسلة مرتبة، أحاول بقدر المتاح نبش ذاكرة الطفولة وجر بعض الصور، الصخب يعج فى فضاء المدينة، هتافات باسم: ناصر، ناصر، فى ذاكرتى جمل لا أعرف من كان يرددها، سبق وقالها الرئيس عبدالناصر: هنرمى إسرائيل فى البحر.. فى ذاكرتى بعض مشاهد لبكاء ونحيب وصراخ، عبدالناصر سوف يلقى كلمة للشعب، الجماهير تنزل إلى الشوارع ترفض مبدأ التنحى: هنحارب، هنحارب.. فى ذاكرتى مشاهد أغلبها صوتية، لحوارات، وخلافات، وأغانٍ لعبدالحليم تبرر أو تطيب جرح الهزيمة، سألت والدى رحمة الله عليه:
ــ إيه النكسة دى
ــ قال بنبرة تشبه الهمس: الهزيمة
فى الثمانينيات كانت الحرب فى مصر بالوكالة، أدواتها أغلب النخب المصرية، فريقان أحدهما يمثل الفكر السلفى الوهابى النفطى، والآخر الفكر اليسارى البعثى، راجعت نفسى كثيرا، وتجاهلت ما توصلت إليه أكثر من مرة، الانقسام بين معسكر الإسلاميين ومعسكر اليساريين ساعدنى فى إجابة قد تكون مقنعة بالنسبة لى: اختراق الخطاب المصرى، وتبنى النخب (الإسلامية واليسارية) لأجندة عربية، الإسلاميون كانوا، وما زال بعضهم، يمولون من بلدان النفط، أغلبهم سافر للعمل فى بلدان الخليج، وبعضهم تبنى الفكر الوهابي، وبعض اليساريين كانوا يتبنون الفكر الذى يروجه البعثيون فى العراق وسوريا، نظير بعض السفريات والهدايا، صدام حسين كان يغدق على المثقفين بالجوائز، والدعوات، والهدايا، وكانت المنافسة على أشدها بين دول النفط وبلدان البعث، كل منها يغدق على النخب والمثقفين المصريين، فى محاولة لترويج أجندته واختراقه للرأى العام المصرى.
عندما وقع السادات السلام منفردا، بدأت حرب الوكالة، استقطاب أكبر عدد ممكن من النخب المشاركة فى صياغة الرأى العام المصرى، واجهوا جميعا (إسلاميين ويساريين) السادات، كل منهم استخدم سلاحه، تم تكفير السادات من الإسلاميين، وأهدر اليساريون دماءه لخيانته وشقه الصف العربي، بأموال الخليج والبعث معا قتل النخب المصرية أنور السادات، وشوهوا نصر أكتوبر، واحتفوا بالنكسة.
واليوم يكرر البعض المشهد، جبهة مع النظام وأخرى ضده، كل منهما يشهر سلاحه (وسائل الإعلام) ويقاتل بكل عنف لإزاحة الآخر من المشهد، من ستكون له الغلبة؟، لا أحد يعلم، لكن المؤكد أننا نعيش حالة من العنف والكراهية والحقد الأسود، يمكن أن تتلمسها فى الخطاب، والتشريع، والتوصيف، هذه الحالة انتقلت للأسف من النخب إلى العامة، ربنا يستر.