د. نصر محمد عارف
انعدام الوجدان لا يعنى انعدام الوجود
انعدام الوجدان لا يعني انعدام الوجود، قاعدة من قواعد التفكير توارثها الفقهاء والعلماء حتى استقرت في وعي المسلمين على مدى أكثر من ألف عام، تقول هذه القاعدة إن كراهية الشيء، وعدم وجود عاطفة إيجابية تجاهه لا يعني، بأي حال من الأحوال، أنه غير موجود، فقد يكون موجوداً أمام عينيك، أوفي داخل جسدك، ومشاعرك هذه لن تنال من وجوده شيئا، ولن تضعف هذا الوجود أو تلغيه.
هذه القاعدة تفترض وجود مجتمع عقلاني سوي، يفكر أفراده بصورة رشيدة، أو على الأقل بصورة واقعية، أو في الحد الأدنى أن يكون أفراد المجتمع أسوياء عقلياً ونفسياً، وليسوا من المأزومين نفسيا، أو المغيبين عقليا، مثل الكثيرين في مجتمعاتنا، التي هي في الغالب أقرب إلى الحالة السلبية المأزومة، حيث ينتشر فيها أفراد مأزومون نفسيا، ومغيبون عقليا نتيجة لحالة الفقر الشديد، وانعدام الأمل في تغيير حقيقي ينقلهم إلى حالة أفضل، ناهيك عن انتشار الأمية التعليمية والأمية الثقافية، وتمدد الخطاب الديني السلبي الذي يسهم في تغييب العقول، والتعلق بالخيال، ورفض الواقع، وصناعة واقع آخر على المقاس، وحسب الطلب لا علاقة له بالواقع الحقيقي.
لذلك فإن المجتمع المصري لا تنطبق فيه قاعدة «انعدام الوجدان لا يعني انعدام الوجود»، بلتعلى العكس، يسود فيه عكسها، حيث زانعدام الوجدان يعني «نعدام الوجود»، فالشيء الذي لا نحبه غير موجود، وإن وجد فهو سيىء وفاشل، ولا يأتي منه خير أبداً، فيقول المثل الشعبي «حبيبك يبلع لك الزلطة وعدوك يتمنى لك الغلط».. ويقول الامام الشافعي «وعين الرضا عن كل عيب كليلة.. وعين السخط تبدي المساويا».
تاريخ طويل من ثقافة تنفي وجود كل ما لا نحب، أو تنفي قيمته، أو تنفي نجاح أي شيء أو فعل أو إنسان طالما ليس له في القلب مكان، وليس لدينا عاطفة تجاهه، وهنا ندرك عبقرية النص القرآني الرائع الذي جاء ليضع حداً لهذه العقلية العاطفية، التي تتحكم فيها الأمنيات، وتنفي وجود الواقع الذي لا تحبه، حتى وإن كان وجوده سيؤدي إلى إلحاق الضرر بها، أو إنهاء وجودها، جاء القرآن الكريم ليدرب المؤمن به على الإدراك الواقعي السليم، ليس فقط من خلال الاعتراف بوجود ما لا نحبه؛ بل بتقديره حق قدره، والاعتراف بمزاياه، وليس فقط التركيز على عيوبه، فكان الأمر القرآني (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) المائدة آية(8). أمر إلهي بعدم الاستسلام لمشاعر الكراهية لمن لا نحب، وترك هذه المشاعر تمنعنا من العدل معه، وإعطائه حقه، لذلك كان الأمر القرآني الحاسم (اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).
هذه الحالة السلبية من إنكار وجود ما نكره تجلت في مصر في السنوات الأخيرة؛ خصوصا عند من لا يتوقع منهم أن تكون فيهم، أولئك الذين يرفعون شعار الإسلام، ويدعون أن القرآن دستورهم، والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم قدوتهم، أصبحوا للأسف يقدمون النموذج الأسوأ إنسانيا في تطبيق كل ما هو عكس قاعدة «انعدام الوجدان لا يعني انعدام الوجود» ويصرون على مخالفة الآية الكريمة بصورة كلية ومطلقة ودائمة، الكراهية عندهم مبرر لنفي كل مزايا من يخالفهم، وإنكار حسناته، ونفي الصفة الإنسانية عنده، بل والانزلاق لتكفيره، أو تخوينه، ومحاربته بالكذب والتلفيق والتزييف، ومن خلال توظيف كل الوسائل غير الأخلاقية.
وللأسف نرى هذه الحالة يدعو إليها، ويحمل وزرها، ويقود العوام فيها مشايخ يضعون عمامة شعار الدين على رؤوسهم؛ يطلون على جماهيرهم من قنوات فضائية تبث من تركيا ومن قطر، ويحذو حذوهم متعلمون يحملون درجة الدكتوراه، أو تحملهم درجة الدكتوراه، يملؤون مساحات قناة الجزيرة الفضائية تحليلاً، وتوصيفا وتنبؤاً، بكلام لا يوجد فيه إلا أمنيات؛ تبعثها نفوس تنفي الوجود عن كل ما لا تحب، على الرغم من أن الحقائق أمامهم بالصوت والصورة، وبالأرقام، ولكن النفوس المأزومة والعقول المغيبة، لا ترى إلا ما تحب، وكأن عيونهم لا ترى خارج رؤوسهم؛ بل هي عيون مقلوبة ترى ما في الرأس، وليس ما هو خارجها، حتى وإن كان ما هو خارجها سيقضي عليها.
هذه الحالة من تغييب العقل انحيازا للعاطفة تقود الى إرباك المجتمعات العربية وتشتيتها، وتدمير الأوطان وتفكيكها، وغرس اليأس في النفوس، ومصادرة المستقبل، ودفع الشباب إما للانتحار من خلال الانضمام للجماعات التكفيرية المجرمة، أو الهجرة، أو الإدمان وتغييب العقل، لأن رسم صورة سوداء عن الواقع، والاستمرار في تضخيم هذه الصورة بحيث لا يكون بجوارها بارقة أمل، أو طاقة للمستقبل هو مقدمة للانتحار الاجتماعي على المدى الطويل، لأن الإنسان لا يحيا الا بالأمل.