محمد السعيد ادريس
تداعى نظرية «الصبر الإستراتيجى»
مثلما هى حدود إسرائيل «حدود مراوغة» عن عمد لخدمة مشروع التوسع الإسرائيلى على حساب أراضى الدول المجاورة كلما كان ذلك ممكناً فى رهان لا ينقطع على أن «الزمن يعمل دائماً لصالح إسرائيل»، فإن الرؤية الإسرائيلية للحل الدائم للقضية الفلسطينية تبقى هى الأخرى «رؤية مراوغة» للسبب نفسه، لذلك ينقسم الإسرائيليون، ولو ظاهرياً، فيما بينهم حول أى مشروع أو خطة عربية أو دولية لتسوية الصراع. وهذا الموقف الانقسامى لم يستثن خطة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب للسلام التى تحمل اسم «صفقة القرن» رغم عدم الإفصاح الأمريكى الرسمى عن هذه الخطة ومعالمها.
ما تم تسريبه، حتى الآن، من مشروع ترامب للسلام «صفقة القرن» أنه يتضمن مرحلتين الأولى هى جوهر المشروع، وربما تكون هى المشروع ذاته، وتتضمن إقامة دولة فلسطينية تشمل قطاع غزة والمنطقتين (أ، ب) وأجزاء محدودة من المنطقة (جـ) من الضفة الغربية، ووضع قضيتى القدس وحق عودة اللاجئين لمفاوضات لاحقة مرتبطة بالمرحلة الثانية التى تربط بين تحقيق ما يسمونه بـ«سلام إقليمي» عربي- إسرائيلى يقود إلى تأسيس تحالف عربي- إسرائيلى لمواجهة «الخطر الإيراني» المشترك وبين تصور لتسوية نهائية، أو حل دائم للقضية الفلسطينية يروج لإمكانية إقامة دولة فلسطينية على أساس حدود الرابع من يونيو 1967 مع مبادلة طفيفة للأراضى وحل مشكلتى القدس وحق عودة اللاجئين. هذه التسوية «النهائية» المفترضة أقرب إلى الوهم يجرى الترويج لها لتمرير الحل المتضمن فى المرحلة الأولى كحل نهائى وتبرير الانخراط العربى فى التحالف المطلوب مع إسرائيل ضد «الخطر الإيراني».
هذا المشروع الأمريكى يتعارض مع المشروعات الإسرائيلية للتسوية التى تتفاوت فيما بينها حول أى مساحة من أرض فلسطين يمكن التخلى عنها للفلسطينيين بين من يرفضون نهائياً إعطاء الفلسطينيين أى أرض ويصرون على أن حدود إسرائيل هى «من النهر إلى البحر» أى كل أرض فلسطين التاريخية باستثناء قطاع غزة، ويروجون أن للفلسطينيين دولة فى الأردن هم أغلبية سكانها، وبين من يقبلون بضم وتهويد معظم أراضى الضفة الغربية إلى دولة إسرائيل والتخلى عن أجزاء محدودة للفلسطينيين، إما لتأسيس «حكم ذاتي» ضمن الدولة الإسرائيلية، وإما تأسيس «كونفيدرالية» مع الأردن، ومن ثم فإن الإسرائيليين يرفضون مشروع ترامب فى الجزء الخاص بإقامة الدولة الفلسطينية، فهم ليسوا أبداً مع إقامة دولة فلسطينية، ويقبلون الجزء الآخر الخاص بالسلام الإقليمى الإسرائيلى مع الدول العربية، ويعتبرون أن تحقيق هذا السلام يجب أن يحظى بالأولوية لمواجهة الخطر الإيرانى المشترك، وتأجيل البحث فى النزاع الفلسطيني- الإسرائيلى والرهان على أن السلام الإقليمى بين إسرائيل والعرب ربما يكون فى مقدوره حل معضلة هذا النزاع، لذلك فإن مشروع ترامب سوف يسقطه الإسرائيليون أنفسهم.
من أهم المشروعات التى تصطدم مع مشروع ترامب ما اعتبره «آفى جيل» المستشار السابق للرئيس الإسرائيلى الراحل شمعون بيريز مشروعاً للتسوية يتضمن رؤية بنيامين نيتانياهو لـ«الحل النهائي» لما يسمونه بـ«النزاع الفلسطينى ــ الإسرائيلي». هذا المشروع أعطاه «آفى جيل» اسم «نظرية الصبر الإستراتيجي» التى تقوم على فرضية أن الزمن يعمل لصالح إسرائيل، وأن واقعاً جيوسياسياً سينشأ فى المستقبل تستطيع فيه إسرائيل أن تضم أكبر مساحة من الأرض الفلسطينية مع العدد الأقل من السكان الفلسطينيين، وهذا ما يجعل نيتانياهو يرفض مطالب اليسار الإسرائيلى وجماعات السلام المتعجلة بإقامة دولة فلسطينية على غزة وأجزاء من الضفة الغربية، وهذا ما يجعله يرفض أيضاً مطالب جماعات اليمين بضرورة الإسراع بضم وتهويد المستوطنات المقامة على أراضى الضفة الغربية كخطوة أولي، إلى أن يتم ضم باقى الأراضي، خشية أن تؤلب هذه الخطوة العالم ضد إسرائيل، وربما تحدث صداماً حتمياً مع الحليف الأمريكي.
نظرية الصبر الإستراتيجى عند نيتانياهو، كما يشرحها «آفى جيل» فى مقال نشره فى صحيفة «هاآرتس» ترى أن الواقع الجيوسياسى الذى سيفرض نفسه حتماً على الفلسطينيين بفعل عامل الزمن، الذى يعمل كما يؤكد نيتانياهو لصالح إسرائيل، سيفرض على الفلسطينيين إما القبول فى نهاية المطاف بالحكم الذاتى على جزء محدود من الضفة الغربية ومن هنا تكون السيادة كاملة والأمن كاملاً لإسرائيل على كل الأرض بما فيها منطقة الحكم الذاتي، وإما الحل الأردنى سواء بأن تضم المملكة الأردنية الفلسطينيين تحت سيطرتها، أو يسيطر الفلسطينيون على المملكة الأردنية.
يراهن نيتانياهو على الزمن وعلى حدوث تحولات جيوستراتيجية وسياسية تخلق واقعاً جديداً يمكِّن إسرائيل من السيطرة الكاملة على أرض فلسطين وإقامة الدولة اليهودية دون الدخول فى صدامات مع العرب أو مع الحلفاء، لكن مأزق نيتانياهو يكمن فى هذا الرهان نفسه، أى فى الزمن الذى أخذ يعمل على عكس ما يأمله أو يريده أو حتى يتوقعه بسبب أن نيتانياهو نفسه معرض لخسارة موقعه كرئيس للحكومة وأن يقدم للمحاكمة على ضوء استدعاءات الشرطة له للتحقيق فى قضايا فساد قد تفقده منصبه كرئيس للحكومة، فى الوقت ذاته الذى يتعرض فيه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لتحديات لا تقل عما يواجهه نيتانياهو بسبب شبهات حول تورط حملته الانتخابية بتواطؤ معين مع روسيا، كما أن قدرة صهره جاريد كوشنر على مواصلة إجراءات «صفقة القرن»، باتت محدودة ومشكوكا فيها بعد خفض مستوى التصريح الأمنى المعطى له، ما يحرمه من حق الإطلاع على المعلومات المصنفة «سرية للغاية» وحساسة فى البيت الأبيض. لكن السبب الأهم هو ظهور معالم «واقع جيوسياسي» إقليمى جديد بعد التصريحات الأخيرة للرئيس الروسى فلاديمير بوتين التى استعرض فيها ما تمتلكه روسيا من قدرات عسكرية فائقة القوة والقدرة قادرة على ردع أى تهديد لروسيا، والتى أعلن فيها صراحة أن روسيا سترد بأسلحة نووية ضد أى تهديد يتعرض له أى من حلفائها. وليس هناك من هم أقرب الآن لروسيا من الحكومة السورية وإيران اللذين تجمعهما معها «شراكة الدم» على الأرض السورية.
واقع ربما يكون الدافع الرئيسى للزيارة المتعجلة التى يقوم بها الآن نتنياهو لواشنطن ولقائه مع الرئيس ترامب، وحديثه اليوم الثلاثاء أمام مجموعة الضغط اليهودية القوية المؤيدة لإسرائيل «ايباك»، زيارة هدفها إنقاذ «صبره الإستراتيجي» الآخذ فى التداعي.