الأهرام
وفاء محمود
نفسية «مفيش فايدة»!
ليسمح لى الشاعر الأرجنتينى الكبير (خورخى لويس بورخيس) أن أستخدم فكرته عن الشعر، فى محاضرة ألقاها عن (لغز الشعر)، فيوضح، هذا الأعمى البصير، أن طعم التفاحة لا يكمن فيها، أو فى الفم الذى يأكلها، ولكن فى التواصل بين الاثنين، فلا التفاحة لها طعم، ولا الفم يستطعم، إلا بالتواصل بينهما، فكل مرة نقرأ قصيدة تحدث التجربة، وكل قراءة جديدة تحدث معها تجربة جديدة، فالشعر عصى على التعريف، فكل قصيدة جميلة برهان على الشعر، وتعريف متجدد ومغاير لا نستطيع تحديده ووصفه، مثل طعم التفاحة لا نحدد طعمها، ففى كل مرة نتذوقها لها معني، ولا يتكرر مع كل الأشخاص، بمعنى مشابه لما قال به القديس (أوجستين) عن الزمن: فإذا لم تسألونى فإنى أعرفه، وإذا سألتمونى ما هو فإننى لا أعرفه!.

شأن الشعر شأن كل المعاني، لا تستطيع أن تحدده على الإطلاق، إلا بالتجربة، وأعتقد أن المعركة الإنسانية الدائمة هى معركة المعاني، التى يبنى عليها كل ما فى الحياة، وامتدت إلى ما بعد الحياة، وهى المعركة التى فرضها علينا الأعداء لمواجهة المعاني، التى تحدد مصيرنا، بيننا وبين أنفسنا، وبين بعضنا البعض، وبيننا وبينهم، ولكن من هم؟! ألا يجب أن نحدد من هم الأعداء الذين يناصبوننا العداء.

أعتقد فى الظروف الراهنة، التى تتضارب فيها المعانى الفطرية بالتجارب العملية، والنتائج الكارثية لأفكار مثالية خيالية، أجد أن تعريف الأعداء أصبح ملتبسا، فربما يكون هو «الغرب» المتقدم، الذى يشمئز من التخلف، ويحكم عليه بالفناء، بينما فى الوقت ذاته بالتجربة الغربية كافة الأجوبة عن أسئلة التقدم!، وربما يكون حاملو مشاعل التخلف أصحاب الروايات والملاحم التاريخية، فلا علم ولا ثقافة لديهم، إلا الحواديت المسلية، وإلهاب المشاعر المنهكة بالجهل والمرض، بينما هؤلاء هم المكون الطبيعى للمجتمع، فى السياق التاريخى الواقعي، الذى كلما تقدم خطوة تراجع أميالا.. عندما أنظر لهؤلاء وهؤلاء يلتبس معنى «العدو» وينتابنى شعور إن «مفيش فايدة».

فالعدو المتقدم لا يهمه أن نتقدم مثله، ويستفيد من تخلفنا، فيزيده ذلك سيطرة فى التنافس الطبيعى من أجل الحياة، فيزداد قوة كلما ازداد منافسه ضعفا، فهى ليست معركته ولكنها معركتنا نحن، من أجل التقدم، وفى أيدينا الأخذ بأسبابه كما فعل «الغرب» نفسه، فالمقاومة لها معان متعددة، تتغير حسب السياق التاريخى الموضوعى الحاكم، فالمعركة الآن ضد التخلف والفكر الماضوى التافه!.

نفسية «مفيش فايدة» لا يهزمها إلا التطلع «للشرق» وكيف خرج من هوة التخلف والدمار وضعف البيئة الاجتماعية، إلى هذا التقدم الهائل، بأدوات وآليات مختلفة، ليضع شعوبه على سلم التقدم اعتمادا على الخبرة الغربية، بكل تواضع، ورغم التنافس فى الإنتاج والسيطرة، إلا أن الشرق خاض معركته من أجل التقدم، واستطاع (إيكيدا) فى اليابان، و(دينج زياو بنج) فى الصين، و (فلاديمير بوتين) فى روسيا، من إعادة البناء الوطني، كلّ بما يسمح به البناء الاجتماعى والثقافي، ليحقق معايير متقدمة على سلم التقدم.. ولكن ما معنى التقدم؟!.

معانى لا حصر لها للتقدم، ولكن ما لا يجب أن يختلف عليه أحد هو أن تتمكن الشعوب من الدخول فى فلسفة العصر، القائمة على تنافس الشعوب المنتجة حضاريا، أى القدرة على الإنتاج، بالإضافة إلى المعانى الحضارية التى تكفل السلم الأهلى من حقوق الإنسان والحريات.

إعادة البناء للكيان الوطني، تتطلب المشاركة الجماعية والإرادة العامة لتحمل المسئولية، فعلى الأقل منها التمييز بين الحرية والفوضي، لممارسة الحرية، ثم انبثاق الديمقراطية، كآلية سلمية لممارسة الحرية، وللديمقراطية قنوات وضوابط، ليس من بينها الترويج للطائفية أو الأصولية!، بل نحن فى مرحلة حرجة، تصل للتخيير بين الحياة والموت، والميوعة والتردد فى مواجهة رءوس الشيطان للأصولية بالتلفيق والتهييج والكذب، يعنى إن «ما فيش فايدة» للنهوض بهذا الشعب المسكين، ليكون جزءا فاعلا فى هذا العالم، الذى لا يرحم المتخلف، ولا يعنيه تقدمه، فربما يكون ذلك أكثر فائدة له.. أن يدعنا عفنين!.

بالطبع ليس هناك فائدة، إذا كان تقييمنا للإصلاح الاقتصادي، الذى يسير بخطوات واثقة نحو التقدم، يعتمد على بعض المهرجين فى الإعلام الطائفي، بقيادة قطر وأموالها السهلة السائلة، ولا ينصت لكبار المتخصصين على رأسهم د. محمد العريان وخبراء وطنيين مثل (د. فخرى الفقي)! الذى يمثل الندرة العاقلة فى غوغائية الفضائيات !.

بالطبع ليس هناك فائدة، أن يكون حصان طروادة الإخوانى هو من يدعى إعادة النموذج التركى الأردوغاني، بعد فشله، وفضح هذا الوهم وألاعيبه العثمانية، لاستخدام العالم الإسلامى كورقة رابحة يقايض بها الغرب، ليقبلوه عضوا بالاتحاد الأوروبي، لكنهم بالطبع فى الغرب المدقق لم يخل عليهم مثل تلك الادعاءات، بالوجه التقدمى تحت العباءة العثمانية المتخلفة!.

بالطبع ليس هناك فائدة عندما تصبح الحرية مطية للأطماع الأجنبية، والديمقراطية تحددها مؤسسات مدفوعة الأجر، حسب رغبة الممول، وكانت الصين أكثر بلاغة عندما أصدرت بيانا بانتهاكات حقوق الإنسان والديمقراطية فى أمريكا، قلعة الحرية، ردا على بيانها المزعوم ضد الصين!!.

لا فائدة إن لم نسر فى بناء الكيان الوطني، وفق فلسفة العصر التى تفرق بوضوح بين النقد العلمى المدروس وتطلبه، وبين مسخ الفوضى والارتباك مهما تم تزييف المسميات! فليس للتفاحة طعم واحد فى كل الأفواه!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف