حين يصبح القبح معول هدم، يتوجب التمترس بالجمال شعار بناء، وعندما يصير الكُرهْ لحناً يحشد جحافله للإبادة، يصبح الغناء للمحبة راية توحد تستهدف البقاء، ووقت أن تتبنى خطاب اليأس منصات التربص استهدافاً للفتن، يؤذن مؤذن الأمل فى أفئدة الأوطان ليتوحد نداها (حى على الوطن)، وفى واقع يحمل هكذا ملامح نفتش فى مكامن قوتنا المنسية فلا نجد إلا الإيمان المصرى القديم يقيناً، والفن المصرى المتأصل فى وجدان الوعى سلاحاً، وعندها تتشكل فى ذاكرة الفن المصرى القريبة ملامح المبدع الراحل (سعد الدين وهبة) صاحب المواقف الوطنية الخالصة، والإبداعات المعجونة وعياً، والمخبوزة وجعاً والناضجة طرحاً، يدرك أن أُمَّتَه الخارجة لتوها من أتون معارك التحرير، يلزمها قويً ناعمة قادرة على أن تحمل مشاعل وعيها إبداعاً يرسم البسمات على شفاتها مهما قست، ويحرك أشجانها مهما تناست، ويدغدغ أفكارها مهما تسطحت، وينجح (وهبة) فى تهيئة مناخ عام يؤدى إلى تبنى الرئيس الراحل الشهيد (محمد أنور السادات) لإقامة (عيد الفن) بداية من عام 1976م، ويستمر الاحتفال حتى عام 1980 حين تصاعد الخلاف بين الرئيس و (سعد الدين وهبة) الذى رفض تجاهل الرئاسة للمناسبة الوطنية، ورفض أن يقوم نائب الرئيس آن ذاك (محمد حسنى مبارك) بتسليم جوائز الاحتفالية، ومنذ ذلك التاريخ انقطعت علاقة الدولة بعيد الفن بعدما آلت الرئاسة لمن كان نائباً للرئيس. ولقد شاءت الأقدار نهاية عام 2013م، أن يجلس كاتب هذه السطور على كرسى (سعد الدين وهبة) فى رئاسة تحرير مجلة (الفنون) التى تصدر عن (الاتحاد العام لنقابات المهن الفنية)، حيث قررت إدارة الاتحاد أن تعيد إصدارها بالتزامن مع اتفاق رئاسة الجمهورية لعودة الاحتفال بعيد الفن، إبان ولاية الرئيس المؤقت المستشار عدلى منصور، وتقرر أن يكون الصدور للمجلة مع الاحتفالية التى اتخذت من ميلاد موسيقار الأجيال (محمد عبد الوهاب) فى 13 مارس موعداً دورياً لعيد الفن المصري، وبغض النظر عن الأزمات المالية الطاحنة التى يمر بها (اتحاد نقابات المهن الفنية)، إلا أن تنبه الدولة فى تلك المرحلة لأهمية إعادة التفعيل للقوى المصرية الناعمة عبر عيد وطنى للإبداع، كان فعلاً يؤكد أن مصر باتت على أعتاب تجاوز عقود من التجاهل لأحد أهم مقومات حضورها الإنسانى والثقافى الفاعلة، وكان أن جرت الاحتفالية حاملة آمالاً عريضة فى غد يسترد فيه الفن دوره المعطل بفعل أزمنة الفساد والإفساد، وفى كلمة الرئيس المؤقت (عدلى منصور) بالاحتفالية قال (عيد الفن مناسبة إن ظلت الدولة حريصة عليها فى كل عام فسيكون من أهم المناسبات التى تعيد الروح للفن والفنانين)، وكانت الآمال عريضة فى أن تقام على هامشه مناسبات أخرى كاحتفالات غنائية وعروض سينمائية وأن يقام لثلاثة أيام كمهرجان أو أن يكرم فيه شباب من الفنانين المبدعين وأن يحضره فنانون عرب، ومر عام تلاه ثان فرابع، ليصدمنا الواقع بأن عيد الفن (خرج) لكنه (لم يعد)، أطل برأسه على استحياء ثم تاه فى زحام من تحديات المرحلة وأولوياتها وخطوبها وتحدياتها، وفى آخر 2017 صرح المخرج عمر عبد العزيز رئيس الاتحاد العام لنقابات المهن الفنية بأن (السبب الرئيسى حول عدم إقامة حفل عيد الفن هو عدم وجود ميزانية تكفى لدى اتحاد النقابات الفنية، ولقد قمت بمراسلة عدد من الجهات المسئولة فى الدولة لدعم الحفل إلا أن الرد كان التجاهل التام).
أمام هذا الواقع دعونا نعترف بأن الحياة الفنية المصرية طالها من عوار طال جميع تفاصيل الحياة فى مصر خلال عقود الفساد والإفساد التى ولت، وحال امتلاكنا لجسارة هذا الاعتراف، تصبح مواجهة الذات الفنية بأوجه القصور فيها مهمة كل مهتم بمستقبل هذا الوطن، إذ إن واقع إدارة المؤسسات النقابية الفنية بحاجة إلى أن يتطور لتجاوز دوره أدوارا وظيفية تقليدية تستهلك طاقته فى رعاية الأعضاء واحتياجاتهم، دونما أن يكون لها حضورها فى مشهد تطوير صناعة الوعي، وتفعيل دور الفن والفنان فى مرحلة البناء الآنية. كما يتوجب على الإدارة بكامل مستوياتها أن تعيد صياغة علاقتها بالفن، ليتحرر من فكرة الاستخدام التى طغت على واقعه عصوراً، فخلفت مناخاً إبداعياً مشوهاً، تطور ليصبح الحاكم فى إنتاجه منطق (التجارة) المجرد، مع إغفال متعمد لكونه صناعة وطنية قادرة على أن تكون يد الوطن الطولى فى تصدير صورته خارجياً ودعم اقتصاده داخلياً وتوعية مجتمعه وتحصينه، وحتى لا تتمحور رؤى الدولة فى مشاريع لجان تحرث فى بحر توجيه طالما أعيا من أعمل فيه جهده. خرج عيد الفن إلى النور قبل أربع سنوات وتاه، ومهمتنا دولة وأصحاب رؤى وإبداع أن نستعيده ليكون فاعلاً فى مواجهة التطرف والإرهاب والتشتت، وليكون عيداً للنور فى مواجهة ظلمات تستهدفنا.