الأهرام
عبد المنعم سعيد
الطريق الممكن إلى الديمقراطية
هناك نوعان من المشاعر تجتاح المصريين خلال هذه المرحلة من عيشتهم السياسية، أولهما التفاؤل بأن المرحلة الصعبة للخروج من عنق زجاجة ما بعد الفترة «الثورية» وعواقبها أوشكت على الرحيل، وأن الأرقام الخاصة بالاقتصاد الكلى فى مصر، والمبشرة فى مجملها بما فيها من مشروعات وإنجازات، سوف تنزل ثمارها إلى العاملين المصريين فرصا للعمل والاستثمار. والثانى حالة من التوجس والخوف من «السياسة» التى لا تواكب ما جرى فى «الاقتصاد» من انفتاح وإنجاز، حيث لم تثمر الأوضاع عن تنافسية تليق بالمحروسة فى معركة الانتخابات الرئاسية. مثل هذه المشاعر المختلطة دفعت جماعة منا إلى تبنى وجهة نظر مؤداها رفض «المرجعية الديمقراطية» باعتبارها إما لا تناسبنا، أو لأن النموذج الآخر المفضل هو مرجعية الإنجاز وكفي. والمثل الشائع هنا التجربة الصينية واعتبارها قبلة نرضاها حيث جمعت ما بين المركزية السياسية المرنة بتداول السلطة كل عشر سنوات داخل الحزب الشيوعى الصيني، مع رأسمالية كاسحة لا تقيدها لا أحزاب ولا نقابات عمال ولا مجتمع مدنى من الأنواع التى تجيزها الدول الرأسمالية الأخري. المعضلة هنا هى أيا كانت الحجج المؤيدة، فإن المؤكد أن ذلك لم يكن هو ما ذهب إليه الدستور المصري؛ كما أن التجربة الصينية خاصة بعدما نجح الرئيس الصينى «شى جينبنج» فى إقناع أو إغواء أعضاء «مؤتمر الشعب القومي» (البرلمان الصينى الذى يجتمع مرة واحدة فى العام) فى رفع الحدود على فترات بقائه فى الحكم، لم تعد مغرية لأحد فى مصر، فلم يكن ذلك ما ثار المصريون عليه بالأمس القريب.

ولكن أيا ما كانت الأوضاع فى الصين، فإن الندوة التى عقدتها صحيفة «التحرير» الغراء حول «أسباب تعثر التحول الديمقراطى فى مصر» يوم الخميس الماضى عكست هذه الحيرة سواء من زاوية ضعف الأحزاب السياسية، أو ارتفاع نسبة الأمية فى البلاد، أو غياب الثقافة الليبرالية فى الدولة وطغيان الثقافة والتقاليد السلفية بدلا منها، أو وجود حزب غالب على الساحة السياسية مثل الوفد، أو حزب قائد مثل التنظيمات الجماهيرية بعد ثورة يوليو 1952، أو عدم حماس النظم السياسية المتعاقبة على الحكم للفكرة الديمقراطية من الأصل، أو ذلك الخوف الكامن من الانقسام والفوضي. وبالإضافة إلى الحيرة والقلق فإن الدهشة كانت حاضرة بقوة، فكيف بعد قرنين من التحديث منذ وصول محمد على إلى الحكم بثورة شعبية فى 1805 فإن الديمقراطية مازالت بعيدة عن الشواطيء المصرية حتى ولو بدت أشباه مؤسساتها حاضرة فى المشهد السياسي. الأخطر هنا أنه أيا كانت إنجازات الإدارة السياسية الحالية، وهى ليست قليلة وتوجهاتها واعدة، فإن الحاضنة السياسية لها ليس لديها هذا الإنجاز. وإذا كان هناك من دروس يمكن تعلمها من التاريخ المصرى المعاصر فهى أن التغيرات الجوهرية فى النظام السياسى المصرى حدثت عقب إنجازات اقتصادية مرموقة. وفى عام 1950 كانت مصر واعدة اقتصاديا إلى حد وضعها فى المكانة الأكثر تقدما من البرتغال وتركيا وكوريا وإيطاليا واليونان، وباختصار دول الجنوب الأوروبي. ومع ذلك حدثت ثورة يوليو؛ وجرى اغتيال الرئيس السادات عقب فترة من النمو الاقتصادى المصرى لم تتكرر مرة أخرى حيث بلغ معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى فى عام 1979 ما تجاوز 8% لأول مرة، وربما آخر مرة، منذ بناء الأهرامات. ثورتا يناير 2011 ويونيو 2013 كلتاهما حدثت عقب نمو متسارع فى معدلات النمو المصرية خلال الفترة من 2004 إلى 2010 تجاوزت فى عامين نسبة 7%.

النقاش فى ندوة «التحرير» كان بناءً فقد سجل أن القضية فى الديمقراطية ليست فقط أن يصاحبها معدل نمو عال، وإنما أيضا أن يكون محتوى هذا النمو هو «التصنيع»ب فى ظل اقتصاد سوق حر وفعال، وهى فكرة طرحناها فى مقال سابق، ولكن هذه المرة فإنه ينبغى أن يكون مصاحبا لها ما يلزم من محو للأمية. الدكتور على الدين هلال طرح فكرة مهمة منطلقا من أن جزءا من العجز الديمقراطى فى مصر يقوم على ضعف الأحزاب رغم كثرتها إلى 104 أحزاب، ولذا فربما كان على قانون الأحزاب أن يعمل على ازدياد فاعليتها من خلال تقليص عددها وزيادة فاعليتها بإلغاء الأحزاب التى تعجز عن توصيل عضو واحد على الأقل إلى البرلمان. ولكن الفكرة التى لاقت رواجا كبيرا بين المشاركين والحضور، فقد كانت أن نقطة البداية فى الديمقراطية تنطلق من «اللامركزية» فى إدارة الدولة وعنوانها الحالى «المحليات» وقانونها وانتخاباتها بحيث توسع دائرة المشاركة، وتخلق الكوادر والقيادات، ولعلها فى كل الأحوال المعمل الرئيسى للتدريب الديمقراطي.

والحقيقة أن موضوع «المحليات» قد بات موضوع التركيز من قبل عدد من الكتاب والمفكرين المصريين لاعتبارات شتى تتجاوز المسألة الديمقراطية. الدكتور أحمد جلال وزير المالية الأسبق، والمفكر الاقتصادى القدير، ذكر فى مقال أخير له فى «المصرى اليوم» أنه «... من الممكن أن تقوم الحكومة المركزية بجميع الإصلاحات، ولا يرى المواطن ثمارا لها بسبب المحليات». عند هذه النقطة يشتبك بشدة كل ما هو اقتصادى بكل ما هو سياسى حيث تكون «السياسة» فى جوهرها إدارة وتوقيع موارد الدولة باستغلال أمثل، وقدر أكبر من تكافؤ الفرص. وعند هذه الزاوية فربما يجد المعجبون بالنظام الصينى أن سر قوته لا تكمن فى الإدارة المركزية للدولة من خلال حزب واحد لا يجتمع برلمانه إلا مرة واحدة فى العام، ويعطى قائده الآن فرصة للحكم مدى الحياة، وإنما لأن «اللامركزية» هى السمة الجوهرية فى النظام السياسى الصيني، وهى التى فيها تتمتع المقاطعات بقدرات كبيرة فى إدارة شئونها، وتنمية مواردها فى سوق حرة تشتد فيها المنافسة بين الجميع. الدستور المصرى لعام 2014 يعطى توجيهات كثيرة نحو اللامركزية من خلال المحليات والحكم المحلى الذى يمكن أن يكون نقطة البداية فى تفعيل النظام السياسى المصرى وجعله أكثر حيوية وقدرة على حماية منجزاته الاقتصادية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف