المصريون
جمال سلطان
وقائع ما جرى مع خيري رمضان .. وصداه
واقعة التحقيق مع الزميل خيري رمضان ثم صدور قرار حبسه وبياته في قسم الشرطة ، ثم قرار النيابة استمرار حبسه أربعة أيام على ذمة التحقيق ، قبل قرار المحكمة بإخلاء سبيله بكفالة ، كانت مثار ضجة كبيرة في مصر هذا الأسبوع ، لأن الواقعة مفاجئة للجميع ، لخصوم السلطة وأنصارها على حد سواء ، فخيري من هؤلاء الذين ألقوا حمالهم كلها في مركب السلطة ، وخاصة بعد 30 يونيه 2013 ، وبالتالي هو يسخر كل المساحات الإعلامية التي يشغلها في الفضائيات وفي الراديو ، قطاع خاص أو حكومي ، للدفاع عن سياسات السلطة وقراراتها وتحديدا عن الجيش والشرطة ، وحتى في الحلقة التي كانت مدار التحقيق والجدل ، كان واضحا أنه يحاول المجاملة وأن يلفت الانتباه إلى المتاعب المالية التي يواجهها أبناء الشرطة ، ولكن العيار فلت منه ، وزاد في جرعة المجاملات وهو الذكي الداهية ، ولكن كما يقولون : غلطة الشاطر بعشرة ، فقدم رواية أعطت انطباعات عكسية مسيئة لأسر ضباط الشرطة ، كما أن ما فعله أثار "شبورة" غير لائقة بين المؤسسات ، وهو أمر يصعب تحمله في ظل الأوضاع الحالية .
كان يمكن إلزام خيري بتقديم الاعتذار ، وهو ما فعله تطوعا من نفسه ، وكان يمكن بعدها أن يقوم بغسل ما جرى في حلقته المشئومة من خلال فقرات أخرى يستضيف فيها بعض أسر الشرطة ويعطي صورة إيجابية ، لكن رد الفعل الذي حدث كان خارج التصور ، أن ينتهي الأمر بحبسه ومن ثم توجيه نداءات من زملائه لتوفير الدواء والكساء له في محبسه ، واتجاه الأمور إلى إحالته إلى المحاكمة محبوسا ، قبل أن تجري في الأمور أمور ، وتقلل الداخلية من غضبتها وتتراجع حملة البلاغات المتواترة التي كان يخطط لها البعض ، وينتهي الأمر إلى الإفراج عنه بكفالة على ذمة القضية .
صحيح أن إطلاق سراحه أراح خيري ، وأعفاه من متاعب صحية ونفسية ، بسبب الكابوس الذي عاشه والذي لم يكن يجري على خياله يوما ما ، مجرد خيال ، لكن الواقعة أثارت فزعا واسعا في أوساط الإعلاميين الموالين للسلطة ، ودع عنك غيرهم من المعارضين ، وحالة الرعب والفزع التي بدت على ملامح عمرو أديب وصوته وهو يعرض خوفه ورعبه مما جرى لخيري كانت دالة على عمق الأثر الذي تركته الواقعة ، فلا أحد منهم آمن أن يكون في نفس المصير وربما أسوأ ، ومن تحصيل الحاصل أن نشير إلى أن كل إعلامي من هؤلاء يستند إلى "ظهر" متين ، ومع ذلك لم ينفع "الظهر" في توقي الضربة ، وبالتالي فلا يعرف أحدهم من أين تأتيه الضربة المقبلة ، ولا كيف يشعر بالأمان ، مهما جامل السلطة ومهما قدم من الولاء والوفاء ، لأنه هو نفسه معرض للخطأ ، وكانت معبرة للغاية عبارة عمرو أديب : (لا اللي بيدافع عن الدولة نافع ولا اللي بيعارضها نافع طب قولولنا مين اللي نافع ؟) .
حادثة خيري رمضان أتت مباشرة بعد واقعة البي بي سي ، وحملة التحريض المروعة على القناة البريطانية ، بسبب تقرير بثته استضاف سيدة تحدثت عن أن ابنتها مختفية قسريا وتعرضت للتعذيب ، وهو الأمر الذي نفته الجهات الأمنية في مصر وعرضت فيديو استضاف فيه عمرو أديب الفتاة نفسها في لقاء مسجل ونفت تعرضها للتعذيب ، وقد قام الأستاذ ضياء رشوان رئيس الهيئة العامة للاستعلامات بالرد التفصيلي على القناة وخاطبها بمنطق الإعلام والحرفة والمهنة وضوابطها وطالبها بالاعتذار ، وهو موقف عقلاني وسليم ، لكن المشكلة أن "السوق" فتح للمزايدات ، فظهرت الشتائم العلنية للقناة والشرشحة لبريطانيا وتاريخها الاستعماري ، وإسفاف لا آخر له ، كما تقدم أعضاء بالبرلمان بقائمة من وسائل الإعلام الغربية التي اعتبروها عدائية لمصر وطالبوا بمقاطعتها وحجب مواقعها في مصر وغلق مكاتبها ، ومن بينها طبعا البي بي سي والنيويورك تايمز والواشنطن بوست والجارديان البريطانية وعشرات الصحف والقنوات العالمية ، وهو ما يعني عزلة إعلامية خطيرة لمصر نفسها أمام العالم وتشويه صورتها بصورة بالغة السوء ، وذلك لأن سوق المزايدات هذه طبيعته ، وهو لا يهتم بمصالح الدولة بقدر ما يهتم أحدهم بمنظره وصورته كمدافع صلب عن السلطة ، وليس مهما أن يكون مثل الدبة التي قتلت صاحبها .
ما جرى مع البي بي سي ثم مع خيري رمضان نبه كل المهتمين بالإعلام وشئونه في المؤسسات المعنية إلى خطورة التصعيد المتوالي ضد الإعلام المحلي والدولي حتى ولو قدم نقدا للسلطة أو الحكومة هنا أو هناك ، فهذه طبيعة الإعلام ، وقد ظهر الأستاذ مكرم محمد أحمد شديد الغضب ووجه رسالة حادة لمجهولين يقول فيها "اعطوا العيش لخبازه ، واللي يفهم في الإعلام يتكلم في الإعلام واللي ما يفهمش يسكت" ، وهو كلام عنيف ، لكنه ـ وهو وزير الإعلام عمليا ـ شعر بخطورة ما يجري على سمعة البلد وعلى الإعلام بكامله فيها .
أرجو أن يكون في ما حدث منبه لأصحاب القرار ، بأهمية إجراء مراجعة شاملة لهذه السياسات المتشنجة تجاه الإعلام من قبل بعض المسئولين ، ولعلها تكون فرصة بعد انتخابات الرئاسة أن يدشن الرئيس عبد الفتاح السيسي مرحلة جديدة بسياسات جديدة ، أكثر انفتاحا وعقلانية في التعامل مع الإعلام ، وبطبيعة الحال أتمنى أن تنتهي حكاية حجب المواقع الإخبارية المحلية والأجنبية ، فهي سياسة عقيمة ومردودها السلبي أضعاف أضاعف أي قيمة إيجابية لها إن وجدت ، وهي أول اتهام يلقى بصفة دائمة في وجه أي مسئول مصري يسافر للخارج ويواجه الإعلام ، كما أن الناس تصل للمعلومة الآن بسهولة من خلال شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات الخارجية ، وأن تتعامل مع منابر صحفية وإخبارية مسئولة ومهنية أفضل كثيرا من أن تواجه متاهة للنشر ، خارج القانون وخارج المهنية ذاتها ، تحيل الأجواء إلى ساحات ملغومة وخطيرة من الأخبار والتسريبات .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف