الأهرام
بهاء جاهين
الأدب.. والخبرة الحياتية
عَلّمنا أسطواتنا الأدبيون, حين كنا لا نزال فى مرحلة صبى الورشة, فضل النص المكتوب من وحى تجربة حياتية على ذلك الناتج عن أفكار وتصورات مجردة. تذكرت هذه النصيحة الفنية الغالية بعد أن انتهيت من قراءة رواية إيزابيل ألليندى قبل الأخيرة «العاشق الياباني» (2015) فى ترجمتها العربية الصادرة عن دار الآداب (بيروت – 2017). فقد أثبتت هذه الرواية لى مجدداً, وبأكثر من معني, حكمة هذه النظرية, المستخلصة من الخبرة الإبداعية العملية. فـ «العاشق الياباني» ترتكز على عمود فقرى – هو الشيخوخة - موجع فى جماله وبساطته, ينبثق كنبع ماء حار لم يكلف الكاتبة جهداً كبيراً فيما يبدو, ولا عناءً واضحاً؛ بعكس الأوصال والحكايات الفرعية لجسد الرواية, التى ينبعث من صفحاتها الكثيرة لهاث عَزْق الأرض وحفر البئر للوصول لماء شحيح ومعاند. فلمَ كان ذلك كذلك؟

الإطار الذى تدور فيه أحداث الرواية هو دار مسنين فى سان فرانسيسكو, تحتشد بزهور بيضاء الشعور من الإنسانية وهى تشيخ: شخصيات مرسومة بعذوبة وحس فكاهى ساخر ومتعاطف, مبنى على فهم عميق لا تمنحه إلا تجربة الكاتبة المباشرة, وذوقها لذلك النبع. فإيزابيل ألليندى كتبت هذه الرواية وهى فى منتصف العقد الثامن؛ لذلك كانت لمسات ريشتها مقتدرة وهى ترسم ملامح مُسِنيّ تلك الدار: لارك هاوس, بسان فرانسيسكو – (الكاتبة الشيلية تعيش فى أمريكا منذ عام 1988). أما إذا دخلنا فى أعماق الشخصيات الرئيسية التى تسكن «لارك هاوس», وتتبعنا حكاياتها التى انتهت بها فى هذه الدار, فإننا يثبت لنا صدق مقولة إن الخبرة الحياتية – ولو غير المباشرة – ضرورية. يثبت لنا صدق ذلك ولكن بطريقة عكسية؛ لأن حكايات تلك الشخصيات فيها الكثير من الخيال المحض, القائم على قضايا فكرية اجتماعية وسياسية, وحقائق تاريخية: مثل معسكرات الاعتقال النازية فى أوروبا, وتلك التى تكدس فيها الأمريكيون من أصل يابانى فى الولايات المتحدة بعد بيرل هاربر؛ واضطهاد المثليين؛ واستخدام الأطفال فى أفلام جنسية؛ والفقر تحت الحكم الشيوعى فى جمهوريات الاتحاد السوفييتى السابق؛ وأهم من كل ذلك القضية التى تستند إليها الحكاية الرئيسية فى «العاشق الياباني»: تحريم وتجريم المجتمع للحب والزواج بين البيض والأجناس الأخرى كالسود والآسيويين, خاصة قبل ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. كل شخصية من شخصيات الرواية الرئيسية تقوم على قضية أو أكثر من تلك القضايا, مما أدى إلى زحام من الأفكار والمواقف والتصورات الأقرب إلى التجريد, ابتعدت بكثير من صفحات العمل عن دفء التجربة الإنسانية المباشرة, وغلّبت الفكرة والقضية على الدم الحار, وتطلبت من الكاتبة جهداً وعنتاً كبيراً لتطويع الحياة البسيطة لكل هذا الكم من القضايا, والحفاظ على التوازن بين الشخصيات الإنسانية الحية وبين الأثقال النظرية التى تحملها حكاياتهم. لكن لا يذهبن بك الظن أن «العاشق الياباني» لا توفر لك قراءة ممتعة؛ فموهبة الكاتبة وبراعتها فى رسم الشخصيات بضربات سريعة من فرشاتها حاضرة وافرة, خاصة حين لا تبتعد تلك الشخصيات كثيراً عن مجال خبرتها الحياتية. على سبيل المثال, شخصية المحامى إسحاق بيلاسكو قد تكون مستلهمة ولو من بعيد من شخصية زوج إيزابيل ألليندى السابق المحامى والروائى الامريكى ويليام جوردون, وهى شخصية ثانوية مرسومة بإبداع هو وزوجته ليليان, ولا تستطيع إلا أن تحبهما. أما الشخصيات المرتبطة بقضايا اجتماعية ومواقف فكرية, فهى أقل حياة.نحن نفهمهم, نعم, لكنهم لا يدخلون قلوبنا بنفس الدرجة؛ لأن ارتباطهم اللصيق بالقضايا يجعلهم كائنات عقلية مجردة؛ نابعة من عقل الكاتبة أكثر من قلبها. ورغم هذا فقراءة كل ما تكتبه ألليندى ممتعة, وتجربة تستحق أن نخوضها, وإن تفاوتت درجات المتعة بين عمل وآخر, أو بين شخصية روائية وأخرى وما وراءها من حياة, فهى حكّاءة شهرزاد لها ألف حكاية وحكاية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف