المساء
مؤمن الهباء
قريتنا .. التي كانت
كانت قريتي واحة من الجمال الطبيعي الذي أبدعته يد الخالق دون تدخل أو تنسيق بشري . وعندما أراها الآن يصعب عليّ حالها وحال أهلها الذين يحاصرهم القبح والضجيج من كل جانب . فقد نمت وتوسعت نموا عشوائيا وفوضويا قتل فيها كل عناصر الجمال الذي تحتفظ به الذاكرة .
كان مدخل القرية مبهجا مريحا للناظرين . عندما تنحرف من الطريق الزراعي تواجهك لوحة مثلثة ممتدة من الأرض الخضراء علي اليمين . وعلي اليسار ترعة واسعة علي جانبيها شجر الصفصاف والساسابان العتيق الذي تتدلي فروعه في ماء الترعة . ولذلك كان الناس يسمون هذه الشجرات "أم الشعور" . فقد كانت بالفعل مثل الصبايا ـ أو الجنيات ـ اللائي يغسلن شعورهن في الترعة منذ مئات السنين . تدور حولهن الحكايات والأساطير وهن شامخات عفيات لا يتأثرن بمرور الزمن .
وخلف الترعة يقبع المعهد العالي الزراعي المحاط بالأسوار . والذي يمثل منارة العلم والطموح للشباب . ويعطي قريتنا ميزة وشهرة لا تتوفر حتي للمدن المجاورة . وكانت مبانيه تبدو لنا من الخارج قصورا أسطورية لا يحلم بدخولها إلا من سهر الليالي في طلب العلم . أما من ساقه الحظ ودخل المعهد متفرجا فقد دخل الجنة . حيث أشجار النخيل والبرتقال وورود الزينة والزراعات غريبة الأشكال والألوان . يقولون عنها إنها زراعات التجارب التي يشرف عليها الدكاترة الكبار .
كانت قريتنا محاطة بالترع النظيفة من كل جانب . وكانت الترع والجنيات التي تسكنها والبلهارسيا التي تصيب من يستحمون فيها تمثل زادا وافرا للحياة الفكرية والتربوية لأبناء القرية . إلي الدرجة التي تجعل شيخ الكتاب يضع علامة بالحبر الأسود علي أفخاذ الأولاد بقلمه ويفتش علي هذه العلامة في اليوم التالي . والويل كل الويل لمن يفقد هذه العلامة التي سيكون فقدها دليلا علي نزول الترعة . فلا عقاب أقل من الفلكة وعشر عصيات بالجريدة الغليظة علي القدمين .
فإذا ما عبرت الكوبري الصغير ودخلت إلي القرية يطالعك في الواجهة دوار العمدة الذي هو رمز السلطة وعنوان القوة والفخامة . وهو مبني من الطين مثل كل البيوت . لكن الطراز المعماري والاتساع يضفيان عليه مهابة في نفوس العامة . ناهيك عن الخفراء الذين يدخلون إليه ويخرجون منه وهم يحملون البنادق .
وبعد الدوار بخطوات تقع حنفيات المياه العامة التي توفر مياه الشرب النقية لأولئك الذين لا يستطيعون إدخال خط المياه إلي بيوتهم أو تركيب طلمبة خاصة . وكانت هناك محطة حنفيات عامة أخري في الجنوب . وفي الصباح والمساء تتزاحم النساء علي هذه الحنفيات لملء أوعيتهم من ماء الحكومة .
كانت شوارع القرية واسعة . أو هكذا كانت تبدو لنا . خاصة شارع داير الناحية الذي يلف القرية . ويجعلها كالدائرة التي تتخللها شوارع داخلية طولية وعرضية ضيقة . وفي هذه الشوارع تتجاور وتتلاصق البيوت المتشابهة للعائلات . كل عائلة لها ربع خاص بأبنائها . وأحيانا تسمي الحارة باسم العائلة التي تجتمع فيها بيوت أبنائها ويكون للحارة باب يغلق عليها ليلا .
بالطبع لن تجد هذه المعالم اليوم بعد أن تغيرت البلاد ومن عليها . أصبحت المنازل أدوارا عديدة وكلها مبنية بالطوب الأحمر والأسمنت والحديد. ولافتات الأطباء ومعامل التحليل والمحامين تتزاحم علي الحوائط . والسيارات تتزاحم في الشوارع . ولكن الشوارع ضاقت عما كانت لأن الناس تتعمد الخروج بالسلالم والمصاطب في غياب الرقابة والتنظيم . ومدخل القرية القديم البديع لم يعد له وجود . الأرض الخضراء تحولت إلي كتل أسمنتية قبيحة المنظر . والترعة تم تغطيتها والأشجار أزيلت . وما يستقبلك هو المقاهي المفتوحة إلي مطلع الفجر . وأكوام القمامة التي تحيط بسور المعهد الزراعي الذي لم يعد معهدا بل صار كليتين .
هذا مجرد نموذج للتطور العشوائي في المجتمع الذي دمر أشياء جميلة في حياتنا .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف