المساء
خيرية البشلاوى
"شباب" يوسف شاهين!
"ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب".. لا أتحدث عن شخصي المتواضع. ذلك لأن "الشباب" بالنسبة لي لم يخبو ولم يذهب. بل موجود ومقيم بأعماقي ويؤلمني في أحيان كثيرة حين أري مظاهر "المشيب" لدي شباب في عمر العطاء. وكسالي متراخين مهملين وملقيين علي المكاتب الصماء أو فوق أرصفة المقاهي أو داخل المؤسسات أو عواطلية يستمرؤن النطاعة والبلادة.
تذكرت بيت الشاعر العراقي أبوالعتاهية "747 ــ 828" في الذكري العاشرة علي وفاة المخرج يوسف شاهين "1926 ــ 2008" التي احتفل بها مهرجان شرم الشيخ منذ أيام وأقام ندوة بهذه المناسبة وعرض بعض أفلامه.. وقدم دراسة عنه.
أفلام يوسف شاهين أعمال "شابة" لفنان شاب وأفلام المخرجين الشباب الأصغر سناً لم يشارك أي منها في المهرجان.
والأفلام المصرية الحديثة المعروضة تجارياً في المدينة لا ترقي للمشاركة في مهرجانات ولا يطمح صناعها الشباب إلي هذا "الشرف" فـأفلام المهرجانات مصطلح سيئ السمعة في السوق السينمائي الاستهلاكي لانها "مش روشة".
"شباب" أفلام يوسف شاهين لا يصيبها المشيب وهي شهادة تدل علي انها انتاج صناعة كانت فتية ومؤثرة وهذا الرجل الذي تجاوز الثمانين رحل عن عالمنا "شاباً" تاركاً آخر أعماله التي تحمل رسالة منذرة ونبؤة تحققت بعد سنوات جاءت بمنتهي "الفوضي" وأجلست طيور الظلام الجارحة علي كرسي الحكم.
و"مصرية" أفلام شاهين رغم أصوله الشامية و"اغترابه" أحياناً وعلاقته الحميمة بالغرب أو بفرنسا علي وجه الخصوص انها "قصرية" تكشف عن نفسها في معظم أفلامه وبروح شابة تتحدي المشيب.
شاهين في مصريته واغترابه فنان يؤدي فريضة المهنة ويحترم المهنية بخشوع وباحترام للفن ولدوره وللمسئولية الملقاة علي الفنان صانع الفيلم أنها فريضة الالتزام بالأرض والناس والنيل والمصير الذي قد يسوقنا أو ربما يضعنا وجهاً لوجه أمام سدود التطرف والتعصب والكراهية ونبذ الآخر.
"الشباب" ليس المكتوب في الرقم القومي ولا بالجلد المشدود والشعر الأسود ولا الفتونة البادية في الحركة والبنية الجسمانية.
"الشباب" احساس متجدد بالحياة وبالحافز الذي لا يهن أمام جذوة الابداع والابتكار. فالفنان الحقيقي لا يهزم. قد يدمع في أسي حين يداهمه العشق لامرأة شابة أو التوق لمغامرة لا يقوي عليها أو حين يري أن العمر يمضي سريعاً ونبع العطاء مازال فيه بقية.
الأفلام المصرية في مهرجان شرم الشيخ "قديمة" ولكنها خرجت من رحم السينما حين كانت شابة وحين امتلأت الاستوديوهات بحركة يوسف شاهين وصلاح أبوسيف وبركات وتوفيق صالح و......... وحين كانت المؤسسة العسكرية يخرج منها فرسان أحبوا الفن واحترموه ولم يحرموه "أحمد مظهر. صلاح ذو الفقار وشقيقاه ويوسف السباعي ....".
لم أكن من مريدي يوسف شاهين ولا "حواريوه" لأسباب أو ربما لقصور في ذائقتي وتركيبتي الفكرية وقناعاتي في فترة من الفترات. ولكنني بكيته حين رحل. لأن رحيله خصم من شباب السينما المصرية ومن عافيتها. بكيته بقدر ما بكيت عاطف الطيب الذي رحل شاباً وترك أعمالاً تشهد علي شباب تفكيره وعلي قوة انتمائه الأصيل لمصريته ووطنيته.
ألا ليت الشباب يعود فعلاً للسينما حتي تأخذ الدور المهم المنوط بها فتبعث الأمل وتقوي الروح المعنوية وتشيع البهجة وتثري المدارك في وقت لا يمر فيه يوم دون أن يسقط شهيد أو أكثر تاركين أمهات مصريات ثكلي أفتدت الوطن بفلذات كبدها.
يوسف شاهين من جيل لم تصبه الشيخوخة الفنية حتي أخريات العمر وما بعد الثمانين ولو عاش أكثر كان سيظل شاباً وأكثر عطاء من شباب المقاهي التي غطت الارصفة وشحنت المقاهي العشوائية تحت البنايات وداخل الشقق السكنية.
"بكيت علي الشباب" بدمع عيني حين أصادفهم غائمون هائمون مغيبون وتائهون في أفكار غرائبية ونظرة ظلامية ومتمردون دون قضية وبلا أحساس بالمسئولية يؤرقهم ولا رغبة في معرفة فعلية يسعون لاكتسابها أو حين لا يؤمنون بغير الفهلوة والروشنة والنفاق الاجتماعي ويتجهون في "صلواتهم" الفنية في اتجاه "قبلة" علي الجانب البعيد من المحيط.
"الشباب" يعني اليقظة لا الإغراق في عالم "الهلاوس" أو "الفساسف" بمعني "الهيافة" أو عالم الإعلام الافتراضي أو غير الافتراضي الذي يؤدي إلي السقوط في أوهام تقذف بهم بعيداً عن الواقع وتجعل منهم وقوداً لحريق قد يلتهم الأخضر واليابس.
ألف رحمة علي "شباب" صناع السينما الذين رحلوا ومازالوا حاضرين.. وألف رحمة علي "شباب" وصغار مازالوا يعبثون.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف