المصريون
طه خليفة
مجزرة للبشر والأخلاق والإنسانيّة!!
المجزرة مُستمرّةٌ، بلا توقّفٍ، في الغوطة الشرقيّة المُحاصَرة منذُ خمس سنوات.

قتلٌ عشوائيٌّ للمدنيّين، واستهدافٌ مُنظّمٌ لمراكز الخدمات الّتي يعمل القليل منها بالكاد، وبطرق بدائيّة، بسبب الحياة المُدمّرة في المنطقة بمدنِها وقراها، والاستهدافُ يركّز على المُستشفيات، والمراكز الصّحيّة، والعيادات، حتّى لا يجد جريحٌ أو مريضٌ من يسعفهما، ليكون القتل، والموت، دون إنقاذ، هو قدر السكّان الّذي لا مفرّ منه.

الإنسانيّة تسقط سقوطاً مريعاً في الغوطة، وتسقط في سوريا المنكوبة منذُ سبع سنوات كاملة، كما تسقط في اليمن، وهي مأساة كُبرى أخرى هناك من يحاول التّغطية عليها، والأمم المتحدة تحقّق فشلاً ذريعاً في البلدان المُحطّمة، وتعجز عن إنقاذ وإغاثة المدنيّين الأبرياء الذين يجدون أنفسهم فريسة بين أنياب ذئاب مُتوحّشة مهووسة بدماء البشر.

سقط قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النّار لأهداف إنسانيّة في الغوطة الذي حاز الإجماعَ يوم 25 فبراير الماضي، القرار لم يُساوي الحبرَ الّذي كُتب به عند الرّوس رُغم تصويتهم لصالحه، وقد انتهكه معهم فوراً تابعُهم الدمشقيُّ وميليشياته.

الأمم المُتحدة والمُنظمات الإغاثيّة التّابعة لها لم تتمكّن من تقديم المُساعدات للسكّان الجائعين المُختبئين في الأقبية تجنُّباً لوابل نيران قصف الطّائرات والمدافع والدّبابات رُغم المُناشدات، فلم تدخل غير شاحنة مُساعدات واحدة نجت من عرقلة إكمال مُهمّتها، كانت قد سبقتها قافلة لم تستطعْ تفريغ مُحتوياتها بسبب الغارات.

الاجتياح البريّ للغوطة مُتواصل مُحتمياً بالطّائرات، حيث يشقّ الغوطة إلى نصفين، ويفصل مناطق عن أخرى، ويتقدّم فيها، وهي بلا داعش، والمُتواجدون من النصرة في مساحة ضيقة منها نحو 250 عنصراً، لكن المسألة ليست مُطاردة الإرهاب، إنّما العقاب الجماعيّ للسكّان، والتّوحُّش في استعادة المناطق المفقودة لكي تثبت الديكتاتوريّة أن إسقاطها شبه مُستحيل، إمّا هي، أو الدّمار النيرونيّ الشّامل على الأرض، والتوقّع أن قوات النّظام مدعومة من الرّوس جوّاً، ومن الإيرانيّين وحزب الله والميليشيات والمرتزِقة برّاً في وارد إكمال السّيطرة على الغوطة ربّما قريباً، وهذا حلمٌ كبيرٌ لهم مثل حلم استعادة حلب، سيروّجون له بشكل واسع بأنه انتصار على الإرهاب، وتأمين دمشق تماماً، والحقيقة أنّه سيكون انتصاراً على دماء السكّان الّذين قدّموا أكثر من ألف روح بريئة منذ 18 فبراير الماضي وحتّى اليوم، بينهم مئات الأطفال والنّساء. وسيتمّ توظيف استعادتها لمزيد من التّصلب في العمليّة السياسيّة المتعثّرة والمُعقّدة، والتي في ظلّ مسارها الحالي العقيم، لن تسفر عن شيء لإيقاف المذابح الجماعيّة، والتوصل لحلّ سياسيّ عادل، والكارثة أن تستمرّ الحرب سنوات أخرى، لكي لا يبقى في سوريا حجر واحد في مكانه، ستكون أكثرَ تمزيقاً، وأشدَّ دماراً، وأوسعَ احتلالاً.

الذي يقتل السّوريّين هو الحاكم المُفترض لهم، أو من كان يحكمهم يوماً، فقد صار بلا سلطة، ولا سيادة، ولم يعُد يحكم أحداً إلا مَنْ حولَه من مُعاونيه وشركائه في الفتك بشعب مظلوم، سوريا الدّولة تخرج من التّاريخ، وباتت مُمزّقة ومحتلة عسكرياً بسبب الطّغيان المريض، ليس احتلالاً من دولة واحدة، كما كانت تحت الاستعمار الفرنسيّ قبل الاستقلال، إنّما من دول كُبرى، وأُخرى إقليميّة، وميليشيات تفرض سلطاتها على المناطق التي تسيطر عليها بقوّة سلاحها. سوريا باتت أرضاً بلا صاحب، وشعباً بلا حامٍ، ومصيراً مُعتماً مجهولاً.

إذا كان القرار الأمميّ بوقف النّار لم يُحترم، فإنّ هدنة الساعات الخمس للرئيس الروسيّ لم تُحترم كذلك، وقد انتُهكت من جانب النّظام، وأصحابها الرّوس، والمُفارقة أن الغوطة كانت مشمولة باتّفاق خفض العنف بين روسيا وتركيا وإيران، ومع ذلك تعرّضت لحرب إبادة مُنظّمة، لا شيء في سوريا صار له احترام، أو سياج من أخلاق، الإنسان أثمن ما في الوجود، حياته هناك بلا ثمنٍ.

الرّوس لم يعُد أحدٌ يعنيهم في العالم فيما يخص سوريا طالما أن أمريكا القوّة الوحيدة القادرة على ردعهم لا تجد لها مصلحة في التدخّل بأيّ شكل إنسانيّ وسياسيّ لإيقاف شلّالات الدّماء، وملايين المُشرّدين، فهي الّتي تستطيع إعادة روسيا إلى وضعها الطبيعيّ، وإجبارها على عدم تحريك طائرة واحدة لها من قاعدة حميميم، أو تُطلق صواريخها العمياء من البحر، أو تسمح لعاملها في دمشق أن تُلقي طائراته البراميل المُتفجّرة، لكن البيت الأبيض من أوباما إلى ترامب يُطبّق نفس السياسة رُغم ضجيج ترامب بأنه ينتهج سياسات جديدة مُختلفة عن سابقه، الأمريكان يتركون سوريا لمصيرها المُؤلم بلداً للتّدمير، وشعباً للقتل، والتّهجير، والمؤكّد أنّ في ذلك خدمة تاريخيّة لإسرائيل بإخراج سوريا نظاماً ومعارضة وشعباً من القدرة على إحداث أيّ تهديد لها مُستقبلاً، وحتّى لو كان النّظام خانعاً أمامها من قبل انتفاضة الشّعب، فإنه بعد الحرب - لو توقّفت، وبقي في السلطة وَفْقَ أيّ مُخرجات سياسيّة دوليّة - سيكون أكثر خنوعاً وضعفاً وعجزاً.

روسيا الدّولة الكُبرى وجدت ساحة حرب جاهزة لاستعراض عنفوان قوّتها، وتجرِبة الجديد في ترسانة سلاحها، وقد أعلنت عن تجريب 200 سلاح جديد في الشّعب السوريّ، وتباهى بوتين بأنّ العالم شاهد فاعلية السّلاح الروسيّ الجديد في سوريا، وتباهى ثانيةً بإنتاج أسلحة لا تُقهر، وتصنيع صاروخ برأس نوويّ أسرع من الصّوت لا يُمكن تعقّبُه، ويصل لأيّ مكان بسرعة مُذهلة، موسكو تستأسد على مدنيّين لا حول ولا قوة لهم، وتستخدم ترسانتها الجديدة ضدّهم، وتوجّه على أشلائهم رسائل لأمريكا وأوروبا بأنّها قوة عُظمى، وأنّها صاحبة القرار في سوريا، وأنّها تعود عبر بوابتها إلى الشّرق الأوسط والعالم لتستعيد مناطق نفوذ كانت للاتحاد السوفييتيّ قبل زواله كأنّه ميراثٌ، وكلّ هذا يجري على الدّم العربيّ الّذي جعله عربُ الطّوائف أرخصَ من الماء.

المفروض أن تكون المسيرة الطّويلة للتطوّر الإنسانيّ والحضاريّ التي دخلت القرن الحادي والعشرين قد تجاوزت مُمارسات البربريّة التي تعيشها الغوطة الشرقيّة حالياً باعتبارها نموذجاً لكلّ غوطة في سوريا وفي البلدان النّازفة اقتتالاً ودماءً واستبداداً، لكنّ التّاريخ في أشدّ صوره سواداً يأبى أن يفارق العقل العربيّ الذي يستعصي على الخروج من كهوف الظّلام والتّسلط والانغلاق والجمود، عقلٌ يُعادي الإنسان والحياة وكلَّ ما هو جميلٌ في الوجود.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف