محمد السعدنى
مناظرة علي كورنيش الإسكندرية
رغم برد الإسكندرية وشتائها الأبهي جمالاً، فقد جاءت جلستنا ساخنة هذه المرة مع بعض المثقفين والشبان وأساتذة الجامعة، تجاذبنا أطراف الحديث كيفما اتفق إلي أن وصلنا لمقارنة رأيتها ظالمة، طرفاها الكاتب الكبير فيلسوف المسرح توفيق الحكيم، وذلك الدعي المتطاول علي تاريخ الوطن ورموزه صلاح الدين وأحمد عرابي وعمرو بن العاص وجمال عبد الناصر وثورة يوليو، إذ قارن البعض بين موقف الدعي في مغازلة إسرائيل وموقف الحكيم باعتبار كليهما رأيا فيها طريقاً للعالمية والوصول لجائزة نوبل. وقادنا الحوار إلي علاقة الأدب بالسياسة، وهي علاقة يصعب إنكارها وأيضاً يصعب القياس عليها بشكل عام، فليس كل الأدب سياسة، وإن استعرض بعض المتحدثين أن المنشق الروسي »بوريس باستيرناك» ما كان يحصل علي نوبل عن روايته »دكتور شيفاجو» لولا انتقاده للاتحاد السوفيتي، وأن سلفادور الليندي في شيلي ما كان ليقتل الشاعر »بابلو نيرودا» لولا السياسة، وأن نزار قباني ما حصل شهرته الكبري إلا عندما اتجه بأشعاره نحو السياسة، وهكذا جابرييل جارسيا ماركيز، وبيرل باك، وجيمس جويس، ومارك توين، وجان بول سارتر وبرتراند راسل، ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وبيكاسو وسلفادور دالي، ويوسف شاهين ومايكل سكورسيزي، ومئات غيرهم لم يحصلوا علي الذيوع والشهرة إلا بما أبدعوه من أدب وفن ترجم رؤيتهم ومواقفهم من السياسة. ورغم وجاهة الطرح، إلا أنني مازلت أجد فارقاً بين حسابات الإبداع والمبدعين فيما يبدعون وبين مواقفهم السياسية. إذ الإبداع عملية توهج موهبة لها خصوصيتها التي كثيراً ما تختلف عن شخصية صاحبها السياسية ومعتقده، ولك أن تختلف، لكنك حتماً يسوء حكمك علي الكاتب أو الفنان أو الموسيقار لو حاسبته علي الفن والأدب بمعايير السياسة، ولقد كان ذلك المبحث محط حوار دائم بيني وجمال الغيطاني رحمه الله في معرض دفاعه عن نجيب محفوظ ومواقفه من الإسرائيليين وإصراره علي عدم العمل يوم السبت، واشتراكه مع الحكيم في مبادرة تبنتها لهما الأهرام للتبرع بإعادة بناء »مدينة الفيروز» التي كانت مستوطنة ياميت الإسرائيلية علي أراضينا بين رفح والعريش واضطروا لإخلائها في أبريل 1982 بعد معاهدة السلام، لكنهم نسفوها ودمروها قبل تسليمها لمصر، وبينما كنا طلاباً مشغولين بتجهيز سفينتي المناصرة 1 و2 لإنقاذ المقاومة الفلسطينية في بيروت، كان الحكيم ومحفوظ يتبنيان مبادرة للتبرع لا للمقاومة وإنما لإعادة بناء المستوطنة وكأنهما يريدان غسل عار إسرائيل التاريخي وعدوانيتها، وتزامن أن كتب كمال الملاخ في »بدون عنوان» في الصفحة الأخيرة للأهرام بأن تدشين محفوظ والحكيم للمبادرة كان ساعة صلاة الجمعة، وأردف أن الوجود في حضرة الحكيم هي في ذاتها صلاة. ولم ننس أن الحكيم كتب في الأهرام 1980 يمهد لخروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي وتكون دولة محايدة بين فلسطين والإسرائيليين، ولا ننسي أنه كتب »عودة الوعي» ونشره في 1972 هاجم فيه عبد الناصر وثورة يوليو بضراوة وغل، واعتبر أن دعمه لناصر وسياساته من قبل كان من قبيل فقدان الوعي وهو نادم عليه. وهنا قال منتقدوه إن يقدم ناصر وثورته قرباناً علي مذبح الإسرائيليين علها تشفع له في الحصول علي نوبل. وهاجمه الكاتب الفذ محمد عودة في كتاب مقابل »الوعي المفقود» فند كل دعاواه وعري حقيقة موقفه وانتهازيته. ولا أنسي تقديم عودة للكتاب، حين أورد قصة رمزية، عن الفنان الشاب الذي حضر لتتويج قائد الأوركسترا الذي عمل معه سنوات، طلب الكلمة قائلاً: »بالنسبة لتوسكانيني الفنان العظيم فأنا أحني الرأس، أما بالنسبة لتوسكانيني الإنسان.. وخلع حذاءه وانهال عليه». ولم ننس أن نزار قباني كتب للرد علي الحكيم مقالاً بعنوان »مظاهرة ضد رمسيس» كان محاكمة قاسية، جاء فيه: » هل يسامحني أستاذنا توفيق الحكيم إذا قلت له إن كتابه ردئ جدا، قدمه للناس علي أنه تحدي لعبد الناصر وهو في الحقيقة لا يتحدي أحدا، لأن ناصر كان في قبره بمنشية البكري. والكتاب ليس فيه من توفيق الحكيم القديم شيء إنه ثرثرة فارغة، وهو متأخر جدا وكأن الحكيم فكر في أداء فريضة الحج بعد عودة الناس من الديار المقدسة، لقد تصرف توفيق الحكيم كما يتصرف العاشق حين يحتفظ بمكاتيب عشقه عشرين عاما ثم يخطر له فجأة أن يبيع رسائل حبيبته في المزاد العلني. والفضيحة في كتابه عودة الوعي هي محاولته إقناعنا أنه كان خلال أعوام الثورة واقعا تحت تأثير السحر ومنوما تنويما مغناطيسيا، كأنه كان مسطولا ومهبولا ومجذوبا طيلة عشرين عاما». فسر البعض ما فعله الحكيم بأنه كان يستهدف نوبل بأي طريقة، وهو نفسه ما يحاوله ذلك الكاتب السارق اللزج، لكن شتان بين قامة الحكيم الفيلسوف الفنان الذي خذلت نفسه الضعيفة فنه، وبين غيره من أصحاب المؤخرات الغليظة والجلد السميك، حتي لو سلكوا نفس الطريق الندامة.