الوطن
د. محمود خليل
نخبة فى محنة (4)
النخبة الإعلامية الحالية عاجزة عن حل أحد الألغاز الكبرى التى تواجه السلطة السياسية، ليس فى مصر وحدها، ولكن فى دول أخرى عديدة. هذا اللغز يتمثل فى «تقديم خطاب قديم فى زمن جديد». أية سلطة فى العالم تعتبر الإعلام جزءاً منها وأداة من أدواتها. وقد ظل الإعلام يلعب هذا الدور بولاء وإخلاص عبر عقود طويلة أخذت فيها السلطة حقها بتوظيف الإعلام كأداة من أدوات السيطرة الناعمة على الجمهور، ونال الإعلاميون جزاءهم من خلال مكاسب متنوعة تمثلت فى الدخول الفلكية من ناحية، وفيما تمتعوا به من نفوذ تصاحبه مغانم عديدة من ناحية أخرى.

أكثر ما يميز الخطاب الإعلامى المتسكع عبر نوافذ الإعلام المصرى حالياً هو «الشيخوخة». الخطاب يعانى من شيخوخة مفرطة. الكثير من العناوين والمانشتات والمفردات والأوصاف والصياغات التى يستخدمها الخطاب الإعلامى الحالى تجد لها أصلاً فى متاحف إعلام الخمسينات والستينات والسبعينات. قد يقول قائل إن بلورة الخطاب الإعلامى على هذا النحو تعكس إرادة سياسية تريد أن تعبئ الرأى العام المصرى لمواجهة المخاطر الداخلية والخارجية المحيطة بالدولة، وهو كلام صحيح، لكن من المؤكد أن كل عصر له أدوات. إعلاميو الستينات والسبعينات لعبوا أدوارهم فى ظل سياق أحادى، لم يكن ثمة مصدر للمعلومات متاح أمام المواطن المصرى سوى الصحف الثلاث اليومية، والقناتين الأولى والثانية فى التليفزيون، بالإضافة إلى بضع محطات إذاعية. كان المشهد الإعلامى حينذاك قابلاً للسيطرة، لكن الوضع اختلف حالياً، فالمواطن يتمتع بمصادر لا حصر لها للحصول على المعلومات من خلال الفضائيات، وعبر مواقع التواصل الاجتماعى، ومواقع إخبارية بلا عدد على شبكة الإنترنت. هذه المواقع لا تقوم بمجرد نقل المعلومة أو إتاحة الفرصة للأصوات المغايرة لتعبّر عن نفسها، بل تعمل أيضاً على وسائل الإعلام التقليدى، فتراجع خطابها الإعلامى، وتجتزئ منه لقطات معينة، تبدأ فى بلورة خطاب معاكس حولها، يجعل من الإيجابى سلبياً، ومن الأحداث الكبرى نكات، ومن الخطوات المهمة مساخر.

فى ظل هذه الأجواء أصبح الدور الأهم لأفراد النخبة الإعلامية هو «الدور الدفاعى»، فجلُّ همهم ينصرف الآن إلى الرد، ويصح أحياناً أن تقول «الردح» ضد خطابات التواصل الاجتماعى من ناحية وخطاب الفضائيات المعادية من ناحية أخرى. ولأنهم منشغلون بالردح والجعجعة اللفظية (الستينية) أكثر من اهتمامهم ببناء خطاب متماسك قادر على الإقناع فقد أصبحوا أداة ضعيفة لا تستحق، من وجهة نظر مموليها، كل هذا الإنفاق. دعّم من ذلك وجود قناعة لدى بعض المسئولين بأن أساليب السيطرة الناعمة عديمة القيمة فى ظل الأوضاع الحالية التى تمر بها مصر، وبالتالى أصبحت أدوات السيطرة الخشنة هى الأهم والأجدى من وجهة نظرهم.

نخبة الإعلام التقليدى توشك على الخروج من الصورة، فلا هى قادرة على إرضاء الجمهور، ولا هى قادرة على إقناع السلطة بجدوى ما تقوم بها من أدوار، ولا هى قادرة على فهم الظرف والتكيف مع معطيات العصر وإفهام المسيطرين على المشروع الإعلامى أن شيخوخة السياسة لا بد أن تؤدى إلى شيخوخة الإعلام. ويبقى دائماً أن من يبدأ بالانبطاح لا بد أن تنتهى به الرحلة إلى الركل!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف