الأهرام
عبد المنعم سعيد
لماذا تعثرت الشركات؟!
فى واحد من الاجتماعات التى يعقدها الرئيس عبد الفتاح السيسى مع الوزراء لمتابعة الشئون العامة الكثيرة والمتعددة الأوجه، فإنه وجه إلى ضرورة إصلاح حال الشركات «المتعثرة». والحقيقة هى أنه خلال خمسين عاما مضت، وابتداء من النصف الثانى لستينيات القرن الماضي، فإن إصلاح حال «الشركات المتعثرة» كان واحدا من البنود المهمة على جدول أعمال الدولة التى سرعان ما اكتشفت أن شركاتها ومصانعها لا تقدم للموازنة العامة، وإنما تأخذ منها فى شكل نزيف نقدى لا يتوقف. ظهر ذلك بقوة مع انهاء الخطة الخمسية الأولى 1960ـ1965، حتى إنه تقرر تأجيل وضع خطة خمسية ثانية حتى تتم مراجعة أمور الاقتصاد العام فى مصر خلال عامين، وهو ما لم يتحقق نظرا لأن هزيمة يونيو 1967 جعلت الهم الوطنى يذهب من بناء الوطن إلى الدفاع عنه وتحرير أرضه المحتلة. وبعد تحرير الأرض جزئيا وكليا فإن القضية عادت مرة أخرى إلى الاهتمام العام، عاما بعد عام، وعقدا بعد آخر؛ وخلال هذه الفترة الطويلة جرت محاولات لإصلاح الحال بدأت بتغيير القيادات بصفة مستمرة، فكان الحال ينتعش لفترة قصيرة ثم تعود الأحوال بعدها إلى ما كانت عليه. وفى أوقات أخرى كانت هناك مراوحة فى المكان، بمعنى أن التخلص من عدد من الشركات الصغيرة التى كانت منتشرة فى المحافظات ربما يقلل من حجم المشكلة، وهو ما لم يحدث. ومع منتصف التسعينيات من القرن الماضي، والعقد الأول من القرن الحالى بدأ الإصلاح يأخذ منحى جديا من خلال «خصخصة» عدد من الشركات العامة أو تجميعها فى شركات «قابضة» تدار على طريقة القطاع الخاص.

الآن وبعد عقدين تقريبا من هذه العملية فإن الشكوى قائمة، والنزيف للموازنة العامة لا يزال قائما. ورغم أن ذلك له جوانبه الفنية الخاصة بكل شركة على حدة والتى لا يدركها إلا المتخصصون، فإن هناك عددا من المفاهيم الأساسية الخاطئة التى قامت عليها هذه الشركات. أولها أن شكل الملكية «االعامة» كان يعنى فى الواقع المصرى ملكية «لا أحد» ومن ثم غياب الحرص والعمل أيضا من أجل أمر لا يهم أحدا لا من يدير ولا من يعمل. هذه الإشكالية ليست مصرية بالضرورة، بل إنها كانت شائعة فى كل الدول الاشتراكية تقريبا. وثانيها أن الشركات والهيئات العامة لا تخضع لنفس المسميات والأوصاف التى تخضع لها ذات المؤسسات الخاصة، فيقال على سبيل المثال: إن الشركة «متعثرة»، بينما هى فى الحقيقة «خاسرة». الأمر هنا هو التخفيف من أثر الحال المتدهور، كما جرى فى وصف «هزيمة» يونيو 1967 بأنها «نكسة» وهو لفظ يماثل «التعثر» لأنه يبدو كما لو كان حالة مؤقتة، ويمكن تجاوزها بقدر قليل من الجهد، وثالثها أن الشركات والهيئات العامة لم تعرف أبدا وعلى وجه اليقين عما إذا كانت مهمتها تحقيق الأرباح ومواجهة الخسائر، أو أنها خدمات تقدمها السلطة العامة للمجتمع وقبلهم للعاملين فيها منذ التشغيل وحتى رعاية الأسر. غياب التعريف الحقيقى للمهمة خلق خلطا شديدا فى القوانين المنظمة لها، فلم يكن هناك شركات عامة فقط أو قطاع عاموحده أو حتى شركات قابضة عامة، وإنما كان هناك أيضا «شركات عامة ذات طابع خاص» كما هو الحال فى المؤسسات الصحفية القومية التى حار القضاء فى شأن طبيعتها التى يحاسب على أساسها قيادتها. ورابعها، أنه أيا كان التكييف القانوني، وأيا كانت طبيعة المهمة، فإن الشركة أو الهيئة أو المؤسسة العامة كانت تعنى أنها جهة مفتوحة للتعيينات مهما تكن حاجة العمل، وأيا كان الموقف الاقتصادى من حالة العرض والطلب. كانت الدولة فى الستينيات من القرن الماضى قد وعدت بأنها سوف تقوم بتشغيل جميع خريجى الجامعات فى المناصب العامة حكومية كانت أو إنتاجية؛ وبعد أن زادت عليها الحالة الإشتراكية التى يوجد فيها «الغلابة» من الحاصلين على الدبلومات فإنها وعدت هؤلاء أيضا بالتشغيل. وبعد ما ظهر أن ذلك مسألة شبه مستحيلة وبات وقف التعيينات حتميا بعد عقدين من التضخم الوظيفى فإن ذلك لم يغن عن التعيين تحت مسميات التدريب أو العمل المؤقت. وفى كل الأحوال فإن رعاية هؤلاء باتت مقدمة على الأرباح والخسائر، ولم تكن هناك مصادفة أن شركات خاسرة كان العاملون فيها يحصلون على الأرباح، وفى حالات توقفت الشركة تماما عن العمل، ومع ذلك كان لابد من «حوافز» وأشكال أخرى من الدعم تحت اسم «نقاط». وخامسها أنه مع كل الأمور السابقة فإن قيادات هذه المؤسسات لم يكن لديها القدرة المطلقة على تحديد أسعار منتجاتها وبالتالى فقدت فورا كل قدرة للتوازن المالى فأصبحت تعتمد اعتمادا كاملا على الموازنة العامة لسد العجز فى موازنتها. وسادسها أن الدولة عندما اعتمدت سياسة «الخصخصة» فإن ذلك ارتبط فقط بالشركات الصناعية التى تعدت ثلاثمائة شركة، ولكنها لم تكن فى الوقت نفسه تشكل أكثر من 18% من الاقتصاد العام فى مصر، وبقى 82% منه بلا إصلاح اقتصادى جدى. هذه الشركات الصناعية بقى منها فى حدود العلم 65 شركة، كان منها شركات ارتدت من الخصخصة إلى الملكية العامة مرة أخري.

المؤكد أن هناك من الملامح والمفاهيم الحاكمة ما هو أكثر، ولكن نتيجة كل ما سبق هو عجز هذه الشركات عن المنافسة لا فى السوق المحلية ولا فى السوق العالمية بالطبع؛ والأخطر عدم قدرتها على القيام بالوظيفة الموكلة لها فى المجتمع من حيث الإنتاج وتكوين التراكم الرأسمالى للدولة، والحفاظ على الموارد الوطنية البشرية والمادية دون إهدار. هذا الأمر يحتاج المزيد من الحديث والتفصيل، ولكن نقطة البداية فى الأمر كله أن تسمى الأسماء بمسمياتها، وبعد ذلك فإن دراسة نتائج الإصلاحات السابقة ربما يجعلنا لا نقترف الأخطاء مرة أخري؛ وكما قيل إن تكرار الإجراءات نفسها والسياسات الفاشلة لن يؤدى تكرارها مرة أخرى إلى نجاح.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف