الوطن
د. محمود خليل
فروق فى «القدرات»
فى أوقات معينة سابقة لم تكن السلطة تطمع فى الصحافة والصحفيين، كما حدث ويحدث فى أوقات أخرى. على سبيل المثال، أيام الرئيس جمال عبدالناصر، ظهر بين المجموعة المهنية مَن يدافع عن رأيه ويعارض السلطة جهاراً نهاراً، بعضهم نال جزاءه بالفصل أو السجن، وبعضهم نجا واستمر، كانوا فى كل الأحوال أشداء فى تحمّل تبعات الدفاع عما يظنون أو يوقنون أنه الصواب. نسبة لا بأس بها من الصحفيين كانت السلطة «تداديهم» وتحاول تأليف قلوبهم بطريقة أو بأخرى، لأنها كانت فى أشد الحاجة إليهم، وعندما كانت تريد معاقبتهم كانت تكتفى بإبعادهم عن المناصب، لكنها كانت تتركهم لحالهم بعد ذلك. أواخر السبعينات كان الصحفى الراحل «صلاح حافظ» على مشارف رئاسة تحرير مجلة «روزاليوسف»، وكان أجدر مَن يشغل هذا المنصب، لكن موقفه الداعم لانتفاضة الخبز (18 و19 يناير 1977) حال بينه وبين ذلك، وقرر «السادات» تجاوزه إلى عبدالعزيز خميس. لم يغضب «حافظ» ولم يجرؤ «السادات» على استبعاد كتاباته التى تصف الانتفاضة بـ«الشعبية» وليس بـ«انتفاضة الحرامية»، كما كان يردد «السادات».

متى تعزف السلطة عن هذه المعادلة التى يوجد بها مسحة من التوازن فى التعامل مع الصحافة؟. تستطيع أن تقول إن ذلك يحدث فى الحالات التى تقلّ فيها قدرات الصحفيين. من أدرك جيل الخمسينات والستينات والسبعينات من الصحفيين حتى فى أواخر عمرهم أو قرأ عن تجاربهم المهنية يستطيع أن يتأكد من وجود فروق محسوسة ونوعية بين قدرات هذا الجيل وقدرات الأجيال التى تلت. الصحفيون أيام «عبدالناصر» و«السادات» كانوا قسمين: قسماً غالباً يجد أن وظيفته الدفاع عن السلطة والاقتراب منها كلما واتته الفرصة، وقسماً محدوداً يرى أن للصحافة أدواراً تتجاوز مسألة التطبيل أو التهليل للسلطة. الشاهد المهم فى تجربة هذا الجيل أن مَن كان يطبّل ويُهلّل كان يجيد القيام بمهمته طبقاً لأصول مهنية واضحة، ومَن كان يعارض كان يعتمد على ثوابت مهنية وقواعد سياسية مُحكمة. وكان يفهم أن للمعارضة دوراً مهماً فى خدمة فكرة الدولة وتنوير مواطنيها وتنمية مقدراتها، ولم يكن يتردد فى تحمّل تبعات معارضته لنظام يتوافر فيه الكثير من سمات «السلطوية».

هل تتمتع الأجيال الحالية من الصحفيين بنفس القدرات التى امتازت بها الأجيال السابقة؟. أشك، فلو أنك تأملت أداء المدافعين عن السلطة والمؤيدين لها ستجد أنه يعمل ضد مصلحة من يحكم. فغرقهم فى معادلة أن تكون ملكياً أكثر من الملك، وأن تتوسع وتجتهد فى عملية التطبيل، دون تمييز بين المعقول وغير المعقول، أدى بهم إلى التحوّل إلى مجموعة من «الدببة» التى تضر أكثر مما تنفع. السر فى ذلك ضعف القدرات، فتطبيلهم تحوَّل إلى نوع من «الدوشة» التى أدت إلى «تصديع» رأس الجمهور، فعزف عن الاستماع. تأمل الخطاب الذى يتسكع فى فضائيات وإلكترونيات وورقيات وميليشيات فيسبوكية لدعوة المواطنين إلى المشاركة فى الانتخابات الرئاسية التى تنطلق غداً وستجد نماذج صارخة على ما أقول. أما حال الصحفيين الذين يقفون على يسار السلطة فلا يحتاج إلى كلام كثير، فأداؤهم يشهد على تحوُّلهم إلى ما يشبه «عواجيز الفرح» الذين يجيدون الغمز واللمز فى تفاعلات المشهد، لكنهم أعجز ما يكونون عن طرح بديل مقنع للناس. إنها فروق قدرات.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف