الأخبار
جمال فهمى
حكايات من زماني .. «إذا القيادة اجتمعت»
من سنوات بعيدة كنت في زيارة عمل لقُطر عربي شقيق، وفي ليلة يوم وصولي استجبت مضطرا لدعوة عشاء »غريبة»‬ وجهها إلي العبد لله زميل وصديق يحمل جنسية أخري غير جنسية القُطر المذكور لكنه كان يقيم هناك هربا من نظام الحكم القمعي في بلده.. أما مصدر الغرابة فهو المقدمة التي قدم بها صديقي دعوته، إذ أمعن وبالغ في الشكوي من سوء حالته المادية وأن العين بصيرة واليد قصيرة، لهذا فإن المطعم الذي سنذهب إليه »‬بائس وحقير جدا».. هكذا قال.
حاولت التهرب من تلبية الدعوة وتذرعت بكل حجج الدنيا، غير أن الزميل زاد في عناده وإصراره، ومع ذلك لم يكف عن إنذاري بأن مكان العشاء »‬فعلا بائس وحقير.. وستري بنفسك»!!
المهم.. سلمت أمري لله وغادرت معه ـ آسفا متحسرا ـ الفندق الفخم الذي كنت أنزل فيه، ولدهشتي فقد لاحظت أن إحساس الأسي والأسف راح يتآكل ويتلاشي، وأخذ يتسرب إلي نفسي شعور بالفضول تأجج وتفاقم حتي تحول إلي رغبة محمومة في بلوغ هذا المكان »‬البائس» بسرعة، وهو ما حدث بالفعل، لكني فوجئت عندما هبطنا من سيارة الأجرة التي حملتنا إلي هناك أننا في قلب شارع هادئ ونصف مظلم ولا تخلو ملامحه من بقايا أناقة تشي بها البنايات القديمة المصطفة علي جانبيه.. جرني مضيفي خلفه إلي جوف واحدة من هذه البنايات وراح يقفز أمامي درجات سلم عتيق، بدا لي وكأنه سلم أبدي وبغير نهاية، وفي اللحظة التي كانت روحي علي وشك أن تسبقني إلي السماوات العُلي، التفت صديقي نحوي وقال وهو مقطوع الأنفاس: ألم أقل لك إنه حقير.. علي العموم هانت باقي نحو 50 سلمة ونصل إلي السطوح!!
أخيرا وصلنا.. ورغم حالة الاحتضار التي كان كلانا يكابدها، فإن زميلي تبادل التحيات الحارة مع كل مَن في المطعم عمالا وروادا.
الآن أعترف بأنه رغم البؤس الأصيل الذي كان ينز من أجواء المكان، إلا أنني أمضيت فيه ليلة رائعة لم نتوقف فيها عن الضحك لحظة.. غير أن الأقدار كانت تدخر لنا المزيد من الإثارة في تلك الليلة الغريبة، فبعد أن غادرنا المطعم وأنهينا هبوط سلالمه الأبدية، انطلقنا نتسكع ونتخبط في ضحكات صاخبة، وبينما نحن علي هذه الحال انسد فجأة الطريق أمامنا بثلة مخيفة من شباب مدججين بالسلاح برز من بينهم قائد أرغي وأزبد مستنكرا الجلبة والمسخرة التي نحن عليها، ثم أمرني وزميلي بإبراز الهوية (البطاقة الشخصية)، لكني قبل أن أنطق بحرف وجدت زميلي يرعد ويزأر في وجه الشاب المسلح وينهره بعنف، فإذا بهذا الأخير يزداد غضبا وهياجا جعله يوجه يده مباشرة نحو البندقية الأتوماتيكية المشعلقة علي كتفه، بيد أن صديقي لم يرتدع وبقي يهتف منذرا الشاب بأوخم العواقب، وفي اللحظة التي كان فيها قلبي علي وشك التوقف النهائي، رأيت صديقي يسحب من جيب سترته شيئا مجهولا، ما إن رآه الشباب حتي ابتلعوا ثورتهم وهتف كبيرهم: مش كنت تقول يا رفيق من الأول.. ثم تركونا نمضي لحال سبيلنا مصحوبين بأسمي آيات الاعتذار!!
استعدت روحي الضائعة بصعوبة، وسألت صديقي مذهولا: مَن هؤلاء؟! وما هذا الشيء الذي أطلعتهم عليه ففعل كل هذا السحر؟! ولماذا لم تظهره مبكرا شوية؟!
رد صديقي، وهو يكاد يفطس من الضحك: هؤلاء يا سيدي »‬الزعران» بتوع الحزب (يقصد ميليشيات حزب الحكومة)، أما الشيء الذي تسأل عنه فهو كارنيه مزور يقول إنني قيادي في الحزب!!
ـ كل هذه القوة والغطرسة التي تصرفت بها، استنادا إلي كارنيه مزور؟!
ـ نعم.. أصل دي هواية عندي.. ده أنا من كام يوم كنت مع مجموعة أصدقاء سهرانين في مكان حقير..
ـ برضه..!
ـ أيوه.. بل هو أحقر من الذي كنا فيه.. وحدث هناك الشيء نفسه، فقد فوجئنا بولد من هؤلاء الزعران يندفع نحونا وسلاحه مصوب نحو صدورنا، وأخذ يزعق ويتفتف، قائلا: قاعدين بتتمسخروا وتضحكوا والقيادة مجتمعة..
ـ وهل كانت القيادة مجتمعة فعلا في هذا المكان الحقير؟!
ـ لأ طبعا.. قصده، كيف نضحك والقيادة مجتمعة عموما، في أي مكان؟!!

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف