الأهرام
د/ شوقى علام
يــــــوم الأم
كرَّم الله تعالى الوالدين تكريمًا خاصًّا باعتبارهما مظهرًا كونيًّا تتجلى فيه صفة الإيجاد والخلق للإنسان واستمرار وجوده، وعلى ذلك تقوم العلاقة بين الولد ووالديه على الإنسانية المَحْضَة، فلا يوجد نظامٌ اجتماعى عبر التاريخ لم يتمسك بهذه القيمة النبيلة، فضلًا عن أن تكون مسألةً تحث عليها الأديان والشرائع.

ولقد أوجب اللهُ تعالى ورسولُهُ صلى الله عليه وسلم على الأبناء بِرَّ الوالدين وإظهار كل ما يصدق فيه الإحسان من الأقوال والأفعال والبذل والمواساة عند التعامل معهما بعد الأمر بإفراده بالعبادة وصدق التوجه إلى حضرة قدسه، فقال تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما . واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا)[الإسراء: 23-24].

ثم أضاف الشرع الشريف إلى ذلك التكريم تكريمًا آخر يليق بكل واحد منهما وفق وظائفه التى أقامه فيها، حيث قرن شكرهما بشكره تعالى: (أن اشكر لى ولوالديك إليَّ المصير)[لقمان: 14]، ولقد أعطى مزيدًا من المكانة للأم وجعلها أولى الناس بالبر وحسن الصحبة؛ فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «ثم أمك» قال: ثم من؟ قال: «ثم أمك» قال: ثم من؟ قال: «ثم أبوك».

وهو اهتمام حكيم يناسب ما تبذله الأم من جهود شاقة فى القيام على شئون وليدها مع التحلى بقيم راقية تتمثل فى الحنان والصبر والتجلد لأنواع متعددة من الآلام عبر حياته بمراحلها المختلفة من تعب فى الحمل وأوجاع الوضع، ودفع ألم الجوع عنه برضاعه وعلاج حياته، وحتى بلوغه وزواجه، ولا أمد لهذه العلاقة الطبيعية بينهما، وفى ذلك يقول الله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)[لقمان: 14].

هذه الجذور الإنسانية والشرعيَّة جعلت للأمومة عند المسلمين معنًى رفيعًا له دلالته الواضحة فى تراثهم الديني، فصِلتها وبرها فرضُ عينٍ، وهى عبادةٌ لا تقبل النيابة، كما أن له معانى راقية فى الموروث الثقافى والحضاري؛ لأن الأم باتت لدى المسلمين عبر العصور رمزًا للتواصل العائلى الذى كانت لَبِنَاتُه أساسًا للاجتماع البشري، إذ ليس أحدٌ أحق وأولى بهذه النسبة من الأم التى يستمر بها معنى الحياة وتتكون بها الأسرة وتتجلى فيها معانى الرحمة.

وهى مظاهر سامية ندرك من خلالها الفجوة الكبيرة بيننا وبين المجتمعات الأخرى التى ذابت لديها قيمة الأسرة وتفككت روابطها حتى أصبح أفرادها ينتظرون المناسبات فيما يمكن أن نسميه »بالتسول العاطفي« من الأبناء الذين يُنَبَّهون فيها إلى ضرورة تذكر أمهاتهم بشيء من الهدايا الرمزية، كما تكشف أيضًا عن بطلان دعاوى أهل التشدد التى ينشطون فى مثل هذه المناسبات لترويج الشعور لدى أتباعهم بانفصال المسلمين عن دينهم وهويتهم، وذلك لمجرد وقوع المشابهة فى أمور العادات ومظاهر الحياة بين المسلمين وغيرهم .

فلا صلة للاحتفال بيوم الأم بالبدعة أو التشبه المحرم بغير المسلمين؛ لأن ذلك صار عادة دخلت بلاد المسلمين وتواطأوا عليها، فضلا عن كون مجرد التشبه لا يكون حرامًا إلا فيما يتعلق بالعقائد والخصوصيات الدينية، ولأنه لا بد فى التشبه من أن يقصد الفاعل حصول الشَّبَه، ومجرد حصول الشيء المشترك دون نية أو توجه وقصد لا يسمى تشبهًا.

إننا لا نجد فى الشرع ما يمنع من أن تكون هناك مناسبة هادفة كـ«يوم الأم» يعبر فيها الأبناء عن برهم بوالديهم خاصة أمهاتهم، فإن هذا أمر تنظيمى لا حرج فيه، نشرًا لقيمة البر بالوالدين فى عصر أصبح فيه العقوق شيئا يبعث على الأسى والأسف. وكل عام والأمهات جميعا بكل خير وعطاء.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف