يتجسد الضمير الوطني المستقل (أيوب المصري)، جَدّاً مصرياً رمت سنوات العمر وخطوبه بظلالها شبكة تجاعيد تغلف ملامحه، تتحلق حوله بادرات الأمل في غد قادم، جموع أطفالنا مستقبلنا الذي نراه يسير صوب أمانيه، في درب وطني عسير، يقول الضمير المؤرِخ (منحوت على باب الوطن تاريخ 9 مارس عيداً وطنياً خالصاً، من منكم يعرفه؟)، يتبادل أطفالنا نظرات الحيرة والتساؤل وبعضهم ينصرف إلى العبث بأطراف ملابسه وخصلات شعره، فيما يجتهد البعض فيردون بإجابات لا علاقة لها بواقع تسعة مارس ولكنها تحمل العديد من الدلالات منها (الفلانتين داي الهالويين عيد ميلاد حمادة ...) وتنبعث في خلفية المشهد أصوات مختلطة لأغاني المهرجانات بنجومها الكثيرة، يختمها مقدم ألبومات (شعبان عبد الرحيم) في التسعينيات وهو يؤكد أن الألبوم ينطلق بمناسبة حفلات (كريسماس الربيع)!
الإجابات بخلفياتها الصوتية تستحيل خناجر قاسية تحفر أوجاعها في كامل تجاعيد (أيوب المصري)، يكتشف الأصل المصري أن فروعه تنخلع عنه، يرميها واقع التسطيح والانسحاق مع ثقافات الاحتلال الجديد (العولمة)، إلى (عالم جديد) مستهدف أن تَصنعه ثقافات لا منتمية ومنبتة عن كل ما يربطها بأصيل، وأمام هكذا وجع يرى الضمير الوطني المتجسد بشراً (أيوب المصري)، أن لا نجاة إلا بأن نلوذ جميعاً بهويتنا الجامعة، وحين نفتش في نموذج للشرف الوطني يقودنا دليل البحث إلى عنوان سطره الدم الذي لا يبرد مهما طال الزمن، كتبته أحرف حية رغم رحيل أجسادها، بكلمةٌ آذانها لا ينقطع صداه، تهتف في القلوب والضمائر (الشهيد).
يقول (أيوب المصري) لمن حضر من أطفالنا ممثلي مستقبلنا والوطن، (قبل قرابة خمسة عقود، بدأت حرب الاستنزاف ضد العدو الصهيوني، وكان اليوم الثاني لها هو 9 مارس 1969، وصباح هذا اليوم توجه الفريق عبد المنعم رياض رئيس الأركان إلى الجبهة، ليكون بين قادة الحرب وجندها، متابعاً ومشاركاً في فرض واقع جديد للمعركة بهدف استنزاف العدو حتى اكتمال تحرير الأرض واسترداد الكرامة التي لطخت ثوبها الهزيمة، وراح رئيس الأركان ومعه اللواء عدلى حسن سعيد قائد الجيش الثانى يجوبون صفوف النضال بتتابعها وصولاً إلى أول الخطوط شمال الإسماعيلية، فيما الاشتباك بالنيران يتصاعد بين قواتنا والعدو، ويتصاعد معه إيقاع الخطر قذفاً بمدفعية العدو، ولم يدفع هذا التصاعد القائد البطل عن الإقدام حتى أصيب إصابة قاتلة، فيما أصيب قائد الجيش الثاني، إصابة أقل خطورة، وأثناء نقلهما إلى مستشفى الإسماعيلية، كان الفريق البطل عبد المنعم رياض قد فارق الحياة وحين أعلنت قواتنا المسلحة أننا فقدنا قائدا عسكريا متميزا هو الفريق رياض خرجت جموع الشعب تودع الشهيد البطل إلى مثواه الأخير، ومنذ ذلك اليوم أصبح 9 مارس هو يوم الشهداء وفاءً لأبطال الوطنية العسكرية المصرية، وتخليداً لروح انتماء خالص لا تشوبها شائبة ولا يلونها إلا علم الوطن)، تتسمر أعين أطفالنا في مواجهة (أيوب المصري) جَدِهم الضمير، يعلق أحدهم في دهشة (سمعت أن عبد المنعم رياض ميدان جنب التحرير أول مرة أعرف إنه بطل وشهيد)، فيما تتعدد التعليقات ومنها (دي حكاية قديمة الحروب كانت زمان الأبطال الخارقين دلوقتي بيبقوا في الكارتون والبلاي استيشن فيه أبطال تانية كتير زي عبده موتة وإبراهيم الأبيض وأولاد رزق كمان)!
هذا الحوار الذي يبدو (فانتازيا) مقتضعة من أحد أفلام الراحل (رأفت الميهي)، هو للاسف واقع مُرْ نحياه، ومع خالص التقدير لكل جهد تم بصدد إحياء (يوم الشهيد المصري)، لكن دعونا نُفَرِّق بين أداءات احتفالية غير منقطعة عن واقع مخاطبة وِدْ الإدارة، وبين إحياء لقيمة الوطنية في توقيت تُستَهْدَف فيه الأوطان هدماً بهدم قيم الانتماء إليها، وباجتثاث كل رموز الولاء والتضحية في تاريخها، إن منطلق هكذا في التعاطي مع القيم الوطنية يحيلنا بالتأكيد إلى استراتيجية تفعيل المناسبات الوطنية دعماً لآليات البناء في مواجهة الهادمين وما أكثرهم، ووفاء لأبطال يخوضون حروباً ضارية على ثغور الوطن الداخلية والخارجية في مواجهة عدو غير منفصل في أهدافه عن مخطط العدو المحتل الذي كان صريحاً حتى توقيع اتفاقية السلام، ثم استحال جراثيم فرقة وتفتت تسري في أبدان الأمة كونت بؤراً انفجرت في مجتمعاتنا في زمن الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد. إن المستقبل مرهون بالعودة إلى جذور الانتماء، واللجوء إلى رموز لا يختلف عليها أحد، وما أشرف أن يكون الرمز قائداً وطنياً لم يبخل بالروح ليعمد بها وطنيته، وفي ربوع الوطن لا يخلو حيٌ أو قرية أو نجع من شهيد قديم، سلم الراية لشهيد جديد، ولئن كان مرار الواقع بأزماته يسري في الأجواف الوطنية فما أحوجنا إلى جرعات قوة تعين على الصمود وتجبر كسر الأمل وتؤكد الوفاء لمن قَدَّم والنموذج لكل قادم، ساطرة (يوم الشهيد المصري) دواءً وطنياً يداوي (مر) الواقع، فلماذا يَمُر؟.