المصريون
جمال سلطان
الجيش ليس مجالا للمزايدات السياسية الرخيصة
في أي جدل سياسي الآن بين أنصار الرئيس عبد الفتاح السيسي وبين معارضيه تطرح على الفور مسألة الولاء للجيش ، وأن جيش بلادي خط أحمر ، وجميع صفحات التواصل الاجتماعي لأنصار السيسي يتصدرها بشكل نمطي وبديهي صورة للجيش أو المقاتل ومعها كلمات تعبر عن الولاء للجيش واحترام الجيش ونحو ذلك من عبارات ، ومع تقديري لأن الباعث على ذلك ربما كان شعورا وطنيا حقيقيا لدى كثيرين ، إلا أن وضع الأمور في ذلك الإطار يمثل إساءة للمؤسسة العسكرية الوطنية التي نحرص عليها وعلى دورها الكبير ، بقدر ما هي تمثل إساءة أيضا لمصر الدولة والوطن .
الجيش ليس حزبا سياسيا أو مسئولا في الدولة أو تيارا في الوطن أو حتى رئيس جمهورية ، فكل ما سبق هي كيانات يمكن الاختلاف حولها ، وطبيعة تكوينها ودورها تحتمل تعددية الرأي ، بل وتحتمل الولاء وغير الولاء لها بطبيعة الحال ، لكن الجيش هو أمر آخر ، غير كل ما سبق ، المؤسسة العسكرية هي رمز للوطن فوق الخلاف وفوق اختبار الولاء وعدمه ، هي رمز شبيه بعلم البلاد ونشيدها الوطني ، ومن ثم لا يصح أن توضع في صدارة أي خلاف سياسي ، لأن هذا يسيء إليها ، ويجعلها مظنة الانحياز لجزء من الوطن ضد جزء آخر من الوطن ، كالأحزاب السياسية أو الجماعات المختلفة ، أو تطرح باعتبارها الحاضنة لهذا الفريق دون ذاك من أبناء الوطن أو قواه السياسية والدينية والاجتماعية أيا كانت ، ينبغي إخراج الجيش من هذا الجدل وهذا التمزق الوطني وهذا النزق السياسي والفكري ، ومن أراد أن ينتصر لحزب أو سياسي أو رئيس أو حكومة أو أي شيء يلزمه البحث عن "رمز" آخر ، دون اللجوء إلى رمزية الجيش التي هي ليست محل خلاف أو نقاش أو تعددية الولاءات .
من جانب آخر ، فبدون شك ، مسألة لجوء قوة سياسية أو تيار سياسي أو أي مسئول صغير أو كبير للمتاجرة برمزية الجيش ومكانته هو شهادة إفلاس سياسي ، هو اعتراف بأنه لا يملك أي قيمة حقيقية تم إنجازها يمكن الارتكان عليها لتسويق نفسه سياسيا ، فيلجأ إلى رمزية الجيش للاختباء خلفها وستر عورته الاقتصادية والتنموية والسياسية ، ولو وجد تلك الإنجازات ورمزيتها الكبيرة لكانت كافية للدفاع عن وجهة نظره أو عن معسكره السياسي أو عن الحزب أو الرئيس ، وغني عن البيان أن الجيوش إنما أوجدتها الأمم لحماية مقدراتها وحدودها ، فالدولة هي الإنجازات وهي حصيلة عطاء أجيال في التنمية والإبداع والتطور ، الجيوش تحمي هذه الحصيلة وليست بديلة عنها ، ومن المؤسف أننا في مصر ـ الوطن والدولة ـ لم نعد نملك بين الأمم ما نباهي به إلا ما أنجزه أجدادنا قبل سبعة آلاف سنة ، مثل الأهرام وأبو الهول وأبو سمبل ، ولعل هذا ما جعل البعض يلجأ إلى المفاخرة بالجيش في كل موقف وكل خلاف وكل نقاش ليستر عوارنا الحضاري والعالمي .
يمكنك أن تشرق أو تغرب ، وانظر مثلا إلى بلد شرقي مثل كوريا الجنوبية ، إحدى الاقتصاديات العشر الكبرى في العالم ، والمعجزة التكنولوجية ، لن تجد أحدا من مواطنيها يصدر موضوع الجيش الكوري باعتباره فخر كوريا ورمزها الذي يباهي به في العالمين ، تجده يتحدث عن سامسونج ، عن هيونداي ، عن حجم الاختراعات السنوية التي يقدمها الكوريون ، ثم اتجه غربا تجاه الدولة التي تملك أقوى جيوش العالم ، الولايات المتحدة ، نادرا ما تجد في أي مجال للفخر القومي الحديث عن الجيش الأمريكي وبطولاته وقدراته وهيبته في العالم ، إنما تجدهم يتحدثون عن أبل وعن جوجل وعن فيسبوك وعن ميكروسوفت وعن بوينج وعن غزو الفضاء وعن ناسا وعن مانهاتن وعن هوليوود ، ونحو ذلك .
وهناك دول من العالم الأول الذي يشار إليه بالبنان في الأمن والأمان والاستقرار والرفاه الاجتماعي والتطور التقني والاقتصادي ، مثل هولندا والدينمارك والنرويج والسويد ، تقريبا لا يوجد هناك جيش ، ربما هناك قدرات رمزية لمفهوم الجيش ، ومع ذلك تجد كل هذا التطور ولا يشعر مواطنو تلك الدول ـ بطبيعة الحال ـ بأي عار أنهم بلا جيوش أو أن جيوشهم صغيره ورمزية ، لأن لديهم الكثير من الإنجازات الهائلة على صعيد التقنية والصناعة والعلوم والفنون وغيرها ما يكون مصدر فخرهم الوطني ورفاههم في الوقت نفسه ، بل الغريب أن كثيرا من قيادات العالم الثالث في أفريقيا وآسيا ، بمن فيهم الجنرالات الكبار ، ممن لديهم الجيوش الضخمة إذا أرادوا حماية أموالهم وأموال عائلاتهم وأبنائهم فإنهم يحتفظون بها في بنوك تلك البلاد التي هي بلا جيوش ، وإذا أصاب أحدهم مرض أو مكروه لم يجد مفرا من أن يذهب للعلاج في تلك البلاد ، لأنه يعرف أنها دول حققت إنجازات ولديها تطور علمي وتقني وصحي لم ينجح هو في تحقيقه لبلاده ، فلجأ إليهم للعلاج ، تاركا شعبه المسكين يعالج بالأغاني الوطنية والهتافات واللافتات ! .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف