شاء الله أن يسبق رحيلك عيد الأم بعدة أيام، وكأنكِ اتخذتِ قراراً بأن تكون ذكرى رحيلك متحدية للزمن، مستعصية على النسيان. «أمر الله»، كما كنت ترددين، لكن من قال إننى بحاجة إلى تاريخ يذكّرنى، وهل تاريخ الإنسان -أى إنسان- على الأرض له معنى أو مدلول خارج أمه التى أنجبته؟ شأنى شأن كل البشر لم يجاوز تاريخى عتبة أمى. كلنا هذا الرجل. نحن نسير فى الحياة بدم ولحم وعظم وأعصاب أمهاتنا. نسيج أجسادنا منشؤه جسد الأم. الأم تمنح من حياتها ثمن وجودنا. ما الحياة سوى الصحة؟. جملة عبقرية ما أكثر ما سمعتها منك وأنا أهوّن عليكِ آلام الجسد المعتل: «كل عيّل فيكم واخد منى راقات». هل تذكرين ضحكاتى وأنا أرد عليكِ ساخراً: «عيّل ناهز الخمسين من عمره!»، وكنت تجيبين ضاحكة: «بردو عيل».
54 عاماً كاملة قضيتها فى صحبتك حتى رحلتِ إلى هناك. لم نفترق فيها إلا أسابيع معدودة على أصابع اليد الواحدة. عندما كنت أقول لك إنى مسافر لبضعة أيام كنت تعلقين قائلة: «لا أحب السفر». إذاً لماذا سافرتِ يا أمى؟ أعترف لك أننى ما زلت «عيّل» فى حاجة إليك. فى كل لحظة تعب مرّت علىّ خلال عام مضى عشت مفتقداً لصوتك الحنون النافذ إلى أعماقى القادر على دفعى إلى رحاب الراحة والسكينة. ما زلت «عيّل» لم يعد له «ونس» فى الحياة سوى اجترار ذكرياتى معك. لم يعد لى سوى التاريخ.
الأم هى تاريخ الإنسان على الأرض. الأرض أم. الوطن أم. الحياة أم. السعادة أم. كل معنى جميل فى هذه الحياة أصله «أم»، بل قل: الأم أصل كل شىء فى الحياة وفى الوجود. التجربة البشرية عرفت ابناً وُلد من رحم أم دون أن يكون له والد، إنه عيسى عليه السلام. ذلك هو السر فيما تمتعت به شخصية المسيح من رقة وحنان ومحبة شملت جميع البشر، حتى مبغضيه ولاعنيه. كان المسيح الإنسان الوحيد الذى تحرر من الأب الذى يقبع فوق أكتاف كل البشر. كلنا نسير فى الحياة وآباؤنا يركبون فوق أكتافنا، كذلك تمضى بنا الأيام دون أن يستطيع أحد أن يتخلص من الراكب فوق كتفيه. المسألة مختلفة بالنسبة للأم، فنحن بضع منها. تأمل الآية الكريمة التى تقول: «ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً». الخالق العظيم أوصى الإنسان بوالديه فى المجمل، لكن الآية الكريمة تنتقل سريعاً بعد ذلك إلى الحديث التفصيلى عن الأم التى عانت مشقة الحمل ووعثائه، ومخاض الوضع وآلامه. هل أدركت الفارق بين الأب الذى تحمله على كتفيك وبين الأم التى حملتك؟ الأم حامل والأب محمول. الأم تحمل بالمعنى الكامل للكلمة، تحمل فى جسدها وعقلها وقلبها وروحها، لذلك كان من الطبيعى أن تختصها الآية الكريمة بالذكر دون الأب.
أمى.. أعلم أنك الآن فى عالم أفضل، لا كرب ولا عنت ولا تعب. أنت الآن عند رحمن رحيم يحنو على البشر أكثر مما تحنو الأم على وليدها.. فلتظلل سحائب الرحمة كل الأمهات، من يُضئن منهن الدنيا ومن ذهبن إلى رحمة الخالق.. رحمة الله عليك يا أمى.. «ادعيلى من عندك».. فما أحوجنى إلى دعائك .