اضطرتني ظروف خاصة أن أذهب إلي مكتب التموين فرأيت فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر . رأيت وجها آخر للحياة في مصر لا علاقة له بما نكتبه في الصحافة من تصريحات المسئولين البعيدة تماما عن الواقع ومشاكله وتعقيداته .
ذهبت إلي مكتب التموين يوم الثلاثاء الماضي . كانت صدمتي الأولي عندما رأيت الأعداد الغفيرة من الرجال والنساء العجائز الذين يجلسون علي سلالم هذا المبني من شدة الإرهاق . وبالكاد نجحت في الصعود كمن بينهم إلي الدور الأول الذي به المكتب فهالني منظر الطوابير الممتدة والزحام الشديد وأصوات الشجار وعبارات الاسترحام والاستعطاف التي تجري علي ألسنة المواطنين من أجل بطاقة التموين . كأنه يوم الحشر. وعند أول الطوابير يقف باب حديدي ضخم يفصل الحشد العظيم عن الموظفين القابعين داخل المكتب . وفي هذا الباب فتحات لاتسمح كل فتحة منها إلا لشخص واحد أن يمد رأسه ويسأل عن حاجته .
وغالبا يكون السؤال عن البطاقة الجديدة . وغالبا يكون الرد أنها لم تأت بعد . وعليك أن تنتظر للأسبوع القادم . وهنا ينطلق الصراخ والعويل . ويكون الرد بصراخ مماثل من الموظفة . ثم ينتهي الأمر بأن "السيستم وقع" ولا كلام.
هذه المعركة تتكرر مع كل حالة تقريبا . حتي ليخيل إليك أن الاستثناء أن يجد المواطن بطاقته التي قد يمر عليها شهور أو سنوات. والنتيجة صدام دائم بين المواطنين والموظفين الذين يعملون فعلا في ظروف غير آدمية . الكل غضبان والكل معذور. لكننا في النهاية أمام أوضاع لا يمكن تصورها في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
أعرف أن الدكتور علي مصيلحي وزير التموين رجل شعبي . وله خبرة طويلة في قطاع التموين . ولذلك أرجو أن يخفف من تصريحاته غير الواقعية التي تستفز الناس لأنها بعيدة تماما عما يعايشونه . كما أرجوه أن يقوم بزيارات مفاجئة إلي بعض مكاتب التموين ليري ويسمع بنفسه بدلا من التقارير التي تقول "كله تمام .