المصريون
جمال سلطان
مصر والبرتغال .. كلام في الرياضة والسياسة
شاهدت أمس ، مثل ملايين المصريين ، مباراة كرة القدم بين المنتخب الوطني المصري ونظيره البرتغالي ، وهي مباراة ودية استعدادا للمشاركة في بطولة العالم المقبلة في روسيا بعد حوالي ثلاثة أشهر ، وبطبيعة الحال كانت أعين الملايين الذين تابعوا المباراة على المنافسة بين كل من رونالدو لاعب البرتغالي وريال مدريد الفذ ، ومحمد صلاح لاعب مصر وليفربول المنطلق للعالمية بسرعة الصاروخ ، ولم يخيب صلاح الظن فيه فأحرز هدفا مما يسمى بالسهل الممتنع أو السهل الممتع أو السهل المبدع ، أو صفه كما تحب ، وتقريبا لا تجد في المباراة كلها أي هجمة منظمة أخرى قام بها الفريق المصري أو لعبة متفق عليها ، بينما الفريق البرتغالي كانت له ملامح وخطة هجوم صريحة ومتوالية ، أفسد معظمها تكتل الدفاع المصري المعتاد .
أسوأ ما في المباراة هو مدرب الفريق المصري ، كوبر ، الذي كان يلعب بحذر وخوف انعكس على تقييد لاعبيه وخنق أي روح إبداعية لديهم ، كنت تشعر أن كل لاعب يؤدي وظيفة مرتبطا بها وواجبا ثقيلا يحاول الخلاص منه دون أن يأخذ عليه أحد أخطاء ، كان اللاعبون المصريون يؤدون بلا متعة ، هم أنفسهم تشعر أنهم لا يستمتعون باللعب ويتعاملون مع المباراة كهم ثقيل ، ربما باستناء محمد صلاح ، لذلك كان أول تفكير للاعب المصري عندما يمسك بالكرة حتى وهو قرب منطقة جزاء الفريق البرتغالي أن يعود بالكرة بأمان إلى حارس مرماه ، والمدرب العبقري أخرج أهم لاعب لديه في العشر دقائق الأخيرة والذي كان يمثل حضوره بعبعا لدفاع البرتغال ويجمد هناك ثلاثة لاعبين على الأقل تحسبا لانطلاقاته ، أخرجه المدرب لكي يدفع عن نفسه شبهة أنه صناعة محمد صلاح ، وأنه لا شيء إلا بوجود صلاح ، أراد أن يقول أن الفريق هو الفريق بوجوده هو لا بوجود محمد صلاح ، وبعد أن أخرجه تحرر دفاع البرتغال من الخوف وضغطوا في جنبات الملعب كلها ، حتى أحرزوا هدفين في دقيقتين ، والسبب الأول والمباشر لذلك هو عبقرية المدرب المتواضع الذي أخرج صلاح لكي يلعب مكانه لاعب عجوز يقترب من الاعتزال ، وقد اختار المدرب المبدع الدفع برأس حربة لم يلعب كرة قدم منذ عام كامل بسبب الإصابة ، فدفع به أمام بطل أوربا في أول اختبار ، وفي اعتقادي لو أن مدربا وطنيا مثل حسام البدري أو حسام حسن هو الذي يدرب هذا الفريق لأمكنه أن يقدم كرة قدم أفضل ومتعة أفضل ونتائج أفضل .
كالمعتاد ، حاول المعلق الرياضي "اللواء" مدحت شلبي أن يحول المباراة إلى دعاية انتخابية أو دعاية سياسية للنظام وللرئيس ، وفي الدقائق الأخيرة ، وبعد أن اطمأن إلى أن الفوز أصبح قاب قوسين أو أدنى ، بدأ الغناء على الأمل ومصر أم الدنيا والإنجازات والقادم الأفضل وأن بلدنا نتقدم وتتطور ولا بد أن نصبر يا جماعة "ونستحمل شوية" ، وكلام ثقيل من هذه النوعية المغازلة للرئيس ، قبل أن تفاجئه الأحداث بهدفين للبرتغال في دقيقتين ، فلم يجد ما يقوله سوى الطبطبة على المشاعر بأننا لعبنا مباراة كبيرة وهذه تجربة والخصم هو بطل أوربا ، وكأنه اكتشف ذلك بعد الهزيمة وليس قبلها .
التوظيف السياسي للرياضة في العالم الثالث هو أسوأ ما فيها ، ولن تجد إعلام دولة يتحدث عن إنجازات الرياضة والرياضيين وينسبها إلى عبقرية القائد وحكمة الرئيس وفلسفة الزعيم إلا في العالم الثالث ، لا يمكن أن تجد مثل هذه اللغة المنافقة في دولة متقدمة أو صاحبة إنجازات حقيقية ، لا يمكن في ألمانيا أو فرنسا أو انجلترا أو إيطاليا تسمع عن نجاح الفريق الكروي بفضل توجيهات الرئيس أو رئيس الوزراء ، رغم أنهم يحققون بصفة دائمة بطولات كبرى وحضورا طاغيا في المحافل الدولية ، فقط في العالم الثالث تسمع مثل هذا الخطاب المتخلف والذي يجعلك تكره الرياضة نفسها ، وقد كان من غرائب التعليقات التي قرأتها أمس لبعض المعارضين والنشطاء قول بعضهم : لقد كانوا يحضرون لإذلالنا إذا انتهت المباراة بفوز فريقنا الوطني .
أهم لاعب مصري الآن ، ورهان المنتخب الوحيد على أي إنجاز ، هو محمد صلاح ، وصلاح ليس إنجاز الرياضة المصرية ، بل إنجاز الرياضة السويسرية والإيطالية والإنجليزية ، موهبة كامنة صقلتها وطورتها بنية أساسية متطورة ، غذائيا وصحيا ورياضيا وتقنيا وتنظيميا ، فأثمرت بالشكل الذي نراه ، ومصر ولودة بالمواهب ، ليس في الرياضة وحدها ، بل في العلم والتكنولوجيا والبحث العلمي والهندسة والزراعة والصناعة والتخطيط ، لكن البنية الأساسية في الدولة ـ علميا وتنظيميا وقانونيا وسياسيا ـ لا تسمح بإبراز المواهب ولا تساعد على صقلها وتطويرها ، هي بيئة قاتلة للمواهب وطاردة للمواهب ومحبطة لأصحاب الطموح ، بيئة لا تنجح فيها إلا الفهلوة والتزلف السياسي على حساب الكفاءة والموهبة والإخلاص ، بيئة تغيب فيها الشفافية وتنتشر المحسوبية والفساد ، لذلك لا تظهر موهبة مصرية الآن في أي مجال إلا إذا خرجت من مصر .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف