المساء
مؤمن الهباء
أطفال الكتاتيب .. وشيخهم
كان اليوم الأول لذهاب الطفل إلي الكتاب في القرية يوم فرح وسرور في أسرته . إذ كان يعني أن ابنها قد بلغ السن التي سوف يصعد فيها سلم العلم ويكشف عن نبوغه ليكون فخرا للأسرة . بل للعائلة وللقرية كلها . مثل الدكتور فلان الذي تعب وذاكر علي لمبة الجاز ولم يترك الكتاب من يده أبدا حتي صار أستاذا في الجامعة . أو مثل الشيخ فلان الذي حفظ القرآن الكريم وهو دون السادسة من عمره ثم أكمل تعليمه في الأزهر حتي صار خطيبا بارعا مهابا وله كلمة علي كل من حوله.
هذا هو الدرس الذي يملأ به عقل الطفل ابن الرابعة وهو يزف إلي الكتاب من اليوم الأول لتحفيزه علي العلم والتحصيل والتزام الجادة والتطلع إلي النماذج المشرفة ممن سبقوه من المتعلمين النابهين . وبمثل هذه المواعظ كانت أمي حريصة علي أن تبث في داخلي طموحا مبكرا للعلم والتعلم . إيمانا بأن العلم هو الوسيلة الوحيدة التي سوف تنقل ابنها إلي طبقة أعلي وحياة أفضل . ويتوازي مع هذه المواعظ توسلات يومية إلي الشيخ عبد العظيم ـ صديق العائلة ـ ليهتم بي اهتماما خاصا وله مكافأة كبيرة علي ذلك "الحلاوة".
كان كتاب الشيخ عبد العظيم واسعا وبه أطفال كثيرون وشباب كثيرون . عالم كبير وجديد بالنسبة لي. هناك من يكتبون في الألواح الخشبية أو الصاج يتعلمون الأبجدية . وهناك من يحفظون القرآن ويراجعونه في المصاحف. وهناك من يقرأون علي الشيخ لضبط وتصحيح القراءات . عالم مليء بالضجيج من أعمار مختلفة . وكل واحد مشغول بنفسه . وكثيرا ما كنا كأطفال نفاجأ بوليمة من صواني الأرز باللبن لأن فلانا قد ختم القرآن وحصل علي الإجازة الكبري . وإلي جانب ذلك كله كان الشيخ يعمل بغزل الصوف . ولا يكاد المغزل يفارق يديه . وأما نحن أبناء الكتاب فقد كان علينا أن نساعده . الكبار يغسلون الصوف وينظفونه وينشرونه في الشمس حتي يجف . والصغار يلتفون في حلقات كي ينفشوه.
إذن هذا هو عالمي الجديد . أطفال وشباب من بيوت مختلفة . يقولون كلاما مختلفا . ويأتون بأفعال مختلفة . وكان علي أن أتأقلم معهم وأعيش التجربه بكفاءة حتي لا يقول الشيخ في حقي كلمة سلبية للأسرة . وبالذات لأمي التي كانت حريصة علي سؤاله عني يوميا . وكان هو حريصاً علي طمأنتها .
لا أذكر كم مكثت في كتاب الشيخ عبد العظيم . لكني تعلمت فيه الأبجدية بسرعة حتي صرت أكتب آيات القرآن . أنقلها من المصحف الشريف إلي اللوح الخشبي . صار عندي مثل الكبار قلم من البوص ودواية حبر ومجلطة "قطعة قماش لها مواصفات خاصة نمسح بها وجها من اللوح لنكتب مكانه الجديد" . وفي كل يوم أكتب القدر الذي يحدده الشيخ من آيات القرآن لكي أحفظها . وهذه نقلة كبيرة في مسيرة طفل الكتاب يستحق عليها الشيخ مكافأة خاصة "الحلاوة".
وأكمل السبت القادم إن شاء الله إن كان في العمر بقية .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف