الأهرام
القمص أنجيلوس جرجس
قلب الملك فى يد الرب
فى عام 1863م زار السلطان عبد العزيز مصر أيام حكم الخديو إسماعيل الذى دعا الوزراء وأهم الشخصيات فى مصر لاستقباله، وكان منهم البابا ديمتريوس الثاني. وكانت العادة فى ذلك العهد أن من يدعى للمثول أمام السلطان أن يقبل يديه أو طرف ثيابه، وحين جاء دور البابا تقدم وقبل صدر السلطان، فانزعج السلطان ودهش الحاضرين. فقال البابا: «لقد قبلت يد الرب لأن فى الكتاب المقدس فى سفر الأمثال آية تقول: «قلب الملك فى يد الرب». فابتسم السلطان وقرر منح ألف فدان للمدارس القبطية.

وما فعله البابا لم يكن اقتباس آية من الكتاب المقدس للخروج من مأزق تقبيل يد أو ثوب السلطان، ولكنه إيماننا العميق والحقيقى أن قلب الملك فى يد الرب. أننا نصلى للـه فى القداس ونقول له: «أنت فوق كل رئاسة وكل سلطان وكل قوة وكل سيادة ليس فى هذا الدهر فقط بل وفى الآتي».

ونحن نردد فى قانون إيماننا: «نؤمن بإله واحد اللـه ضابط الكل»، وضابط الكل أى أنه يحكم ويتحكم فى كل شيء. فلا يظن أحد أن اللـه خلق الكون والإنسان ثم اختفى عن مشهد الحياة، أو ترك العالم وحياتنا على الأرض إلى أن يعود وينهى الحياة ويدين العالم، أنه فى العرش السماوى ينظر ويرى ويحكم ويتدخل ولكن بحكمة هو فقط الذى يعرفها، فيزيل ملوك ويضع آخرين، ويتدخل لوقف الشر ويسمع لتضرعات وتنهدات المظلومين كما هو مذكور فى المزمور الحادى عشر: «من أجل شقاء المساكين وتنهد البائسين الآن أقوم يقول الرب».

فهو يعتنى بالعالم وبالكون كله لأنه إله رحوم ورؤوف، ولا يظن أحد أنه يعتنى فقط بالأبرار ويترك الأشرار، هو يعتنى بالكون كله لأنه هو الحب المطلق والرحمة المطلقة، فحين سقط آدم وحواء فى العصيان لم يبغضهما بل ظل يرعاهما ويحفظهما رغم العصيان وطردهما من الفردوس.

وفى التوراة يحدثنا عن كلامه لموسى النبى وكيف عرفه ذاته وأنه ظل يعتنى بشعبه أربعين سنة فى البرية. ومن أهم مظاهر عنايته بالعالم هو إرسال الأنبياء ليخبر العالم بإرادته وليعيد رسم طريق الحياة لكل البشرية. ومن خلال الأنبياء عرفنا كم هو مهتم بنا ويرعانا ويسعى بحب لكى يعرفه كل إنسان حتى إن داود النبى يقول «الرب راعى فلا يعوزنى شىء... إذ سرت فى وادى ظل الموت لا أخاف شراً لأنه معي» (مز 23)

وفى قصة يوسف الصديق نرى يد اللـه التى تتدخل لإنقاذ العالم وتؤكد عنايته بنا، وأنه ينظر من سمائه ويدبر أمور حياتنا. فقد رأى اللـه أن العالم سيواجه مجاعة وسيموت فقراء وبسطاء فكان تدبيره أن يرسل حلماً لفرعون مصر التى كانت وظلت لفترة كبيرة سلة الغذاء للعالم كله، وكان الحلم يحتاج إلى رجل اللـه لكى يعلن من خلاله تدبيره. وكان حينها يوسف الصديق فى السجن وقد اشتهر بأنه رجل اللـه فأخرجه الفرعون وقص عليه الحلم وحين أخبره بما سيحدث جعله يدبر هو تلك الأزمة وأعطاه اسم «صفنات فعنيح» أى «خبز الحياة». وعبر العالم من تلك المجاعة، ولكن علم العالم كله أن الإله فى السماء لا ينام ولم يترك البشرية تهلك، فإننا نؤمن بأن هناك قيادة السماء للحياة فوق كل قيادات الأرض.

ويقول اللـه على فم إشعياء النبى فى العهد القديم «لا تخف لأنى معك، ولا تتلفت لأنى إلهك» (إشعياء 41: 10)، ويقول السيد المسيح «انظروا إلى طيور السماء: أنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوى يقوتها. ألستم أنتم بالحرى أفضل منها؟» (مت 6: 26)

وأحياناً نظن أن اختيار الملوك والرؤساء هى عملية سياسية بشرية بحتة وإن اللـه بعيد عن تلك الأمور. وهذه نظرة قاصرة لحكمة اللـه فإنه أحياناً يدبر أشياء، ويتدخل فى أشياء، ويسمح بأشياء أخري. فقد يدبر مجيء ملك معين لأنه يريد أن ينقذ العالم من شر ما، وأحياناً أخرى يتدخل ليوقف شر ملك أو رئيس أو جماعة ما، وأحياناً أخرى يسمح بأشياء قد تبدو أنها مؤلمة ولكن تكون له حكمة فى كل هذا.

ونرى فى الكتاب المقدس فى العهد القديم أحداثا تدخل فيها اللـه مباشرة ضد ملوك وأزالهم عن كراسيهم، وتدخل فى أحداث أخرى ليضع ملوك آخرين. ففى عام 600 ق.م. حكم منطقة بابل ملك يدعى نبوخذ نصر واتسعت مملكته حتى إنه هدم أورشليم وهيكل اللـه واحتل مصر، وتكبر جداً، وكان القضاء هو تأديب هذا الملك الذى كان قد سبى أنبياء اللـه ومنهم دانيال النبي، فأرسل له اللـه حلماً أزعجه وبحث عن تفسيره فأشاروا إليه أن يستدعى دانيال النبى الذى قال له: «هذا الأمر بقضاء الساهرين والحكم بكلمة القدوسين، لكى تعلم الأحياء أن العلى متسلط فى مملكة الناس فيعطيها لمن يشاء». وبعد سنوات الأدب قال نبوخذ نصر: «أنا نبوخذ نصر أسبح وأعظم وأحمد ملك السماء، الذى كل أعماله وطرقه عدل، ومن يسلك بالكبرياء فهو قادر على أن يذله» وهذا فى سفر دانيال الإصحاح الرابع.

فسقوط الممالك والملوك قد يكون بتدخل اللـه ذاته لأنه لا يجلس على عرشه ولا يرانا أو يسمعنا بل هو فاعل فى التاريخ وفى حياتنا، حتى إن البابا أثناسيوس يقول: «هو ليس بعيداً عن أى إنسان فنحن به نحيا ونتحرك ونوجد». ويقول القديس إكليمندس: «قوة اللـه حاضرة دائماً وعلى اتصال بنا».

ونحن مقبلون على فترة رئاسة جديدة نصلى إلى الرب أن يدبر ويتدخل لما هو خير لبلادنا فيقول فى سفر الأمثال: «الرحمة، والحق يحفظان الملك وكرسيه يسند بالرحمة الملك بالعدل، يثبت الأرض، والحاكم بالحق للفقراء ويثبت كرسيه إلى الأبد». فنصلى أن يشرق الرب بنوره على بلادنا لكى تظل منارة للحب والعدل والحضارة لكل العالم.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف