الوطن
رجائى عطية
العائشون خارج الزمن !
تصيبنى الحيرة وأنا أرى عقولاً قد تحجرت، وتعيش خارج زمانها، وفى جمودها تفهم الماضى على غير وجهه، وتقرأه قراءة خاطئة، وتفلسفه لنفسها بفهم ضرير، دون أن تدرك أن كل عظيم فى الماضى الغابر إنما كان عظيماً بمقاييس وواقع زمانه الذى عاش فيه ولم يعِش خارجه، وفَهِمَهُ وتعامل مع عناصره تعاملاً مدركاً بصيراً.

حيرنى، ولا يزال، أن أصحاب هذه العقول المتحجرة يعتقدون أن هذا التحجر من الدين، ويفوتهم أن «الصيرورة» قانون كونى حاكم للوجود كله.. مادياته وكائناته ومجرياته، وشموسه وأقماره وكواكبه ونجومه وأفلاكه. يرى الإنسان الجبال يحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب، وأن التعامل مع هذا الوجود «الصائر» دائماً يقتضى تفتحاً وفهماً لأن ما يخرج خارج الزمن يُهجَر وتتجاوزه «الصيرورة» وهو قابع فى جموده لا يبصر ولا يتأمل ولا يعمل عقله ليرى الرؤية البصيرة الفاهمة.

لولا أن الإسلام «بنية حية» تنادى بالتجديد، لهُجِر وما عاش فى قلوب الناس وفى مواكبة الحياة والأحياء، فالأديان لا تُفرض بالقسر والإرغام، وإنما تحيا بالفهم والاقتناع. روح الإسلام فى أنه واعٍ لكينونته ديناً حياً معنياً بالحياة والأحياء إلى آخر الزمان. بنية حية قوامها دهور وأمم، باقٍ خالد بكل عناصر البقاء ما بقيت الحياة. اقتضت ذلك عالميته وخاتميته وصلاحيته وقدرته على الامتداد فى المكان والزمان بغير حد. روحه فى هذا الجوهر الباقى فى روح الزمان وآتى الأزمنة، مثلما كان فى روح الزمن الغابر.

لم يكن صدفةً أن يقول الرسول (عليه الصلاة والسلام): «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها فى دينها». هؤلاء المجددون قد يتعددون فى الزمن الواحد والمكان الواحد. فرسالتهم فى التجديد تتساند ولا تتنافر، وبهذا التجدد بقى الإسلام هادياً على مر الزمان، ملاحقاً للحياة بما تقتضيه، فالحوادث غير متناهية، ترى كل يوم بقانون الصيرورة ما تتجدد به حاجاتها ومقتضيات التعامل البصير معها بما تستوجبه.

نرى العقول الجامدة المتحجرة ترفض العصر، مع أنها تعيش فيه وتستمد منه كل احتياجاتها، فى تنقلاتها بالسيارة والقطار والطائرة، فى اتصالاتها السلكية واللاسلكية بالهاتف والفاكس والتلكس والإنترنت. فى إطلالها عبر الأثير لحظة بلحظة على العالم الذى «صار» قرية صغيرة بما أتاحه العلم والتطور من تقنيات لا حصر لها. هذه التقنيات بنت زمنها وحضارته، وإنكار ذلك عماء للعقول قبل العيون.

صيرورة لا تتوقف

عندما خصصت الدول العظمى فالكبرى ميزانيات هائلة لارتياد الفضاء، واكتناه أسراره وأقماره وكواكبه وأفلاكه، علت الاعتراضات بأن هذه الإنفاقات الباهظة أجدى أن تكرس للعناية بما يعانيه الفقراء.

هذه الاعتراضات التى أثيرت من نصف قرن، ما لبثت أن تراجعت ثم تآكلت إزاء ما حققه ارتياد الفضاء من إنجازات بثت إليه «أقماراً صناعية» أضافت الكثير جداً إلى إمكانيات البشرية فى الاتصال والاطلاع على خريطة العالم وما يموج فيه من أحداث، وما يعرض هنا وهناك من أخبار، وما يبث من رسائل، وما يتحقق عبر شبكاتها من دنيا جديدة حملت منافع جمة، وفتحت وتفتح آفاقاً لم تكن فى الحسبان تحمل الخير والنماء لأهل الأرض!

آفة شرنقة الاعتياد

رفض السابقون رسالات السماء، لأنهم أسرى للإلف وشرنقة الاعتياد وما وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم. كلما جاءهم نبى أو رسول استكبروا وكذّبوه واستهزأوا به وعاندوه، وذريعتهم دائماً هى ذات الذريعة، أنهم مقيمون على ما وجدوا عليه آباءهم حتى لو كان آباؤهم يجهلون ولا يعقلون شيئاً ولا يهتدون.

العادة تتحول إلى شرنقة تحبس العقول والبصيرة.. ومحال أن يرى الراقدون نياماً فى هذه الشرنقة ما تموج به الحياة.

عجزهم عن فهم الدين فهمه الصحيح، أَشَرّ من عجزهم عن تصور المرئى الآن من امتلاء الفضاء الكونى بالأقمار الصناعية ومكاكيك وسفن الفضاء، وما أتاحته وتتيحه هذه المنظومة من إمكانيات ومنافع هائلة فى الاتصالات والبث الكونى على الموجات المرئية والمسموعة، وتواصل العالم كله بكل ذلك ونواتجه حتى صارت القارات جميعاً قارة واحدة، أو قرية واحدة. صار القمر الصناعى الواحد يغنى عن مئات من المحطات التليفزيونية والإذاعية، ويغطى بما يبثه كل قارات العالم وأجواء الفضاء التى تلتقط الطائرات فيه كل ما تبثه هذه الأقمار. هذه الأقمار الصناعية للبشرية دنيا فسيحة من تطبيقات شتى فى التصوير المساحى، وفى الإرشاد الآمن للطائرات والسفن، وفى التنبؤات بأحوال الطقس، ومواطن الأخطار الكامنة المقبلة، وغيرها.

فتحت سفن الفضاء أنظار علماء الأرض على مكنونات كانت مجهولة فى الكون الفسيح الذى ما زلنا لا نعرف عنه إلّا قليل القليل.. عندما أطلقت المحطات المدارية والتليسكوبات الفضائية عرفنا ما لم نكن نعرفه عدداً وحجماً من أجرام كونية كان منها المجهول لنا تماماً أو المعلوم علماً ناقصاً أو مشوشاً.. وعرفنا من أمر النجوم والمجرات والمدارات أكثر كثيراً مما كنا نتصوره، ولا نزال نجهل معظمه!

مفاتيح العقول إلى قيم التراث

لن تفهم العقول الجامدة المتحجرة القيم الحقيقية للتراث، ما لم تفهم بالعقل مغزاها فى زمانها. لم يكن عمر بن الخطاب عظيماً لمجرد أنه يتشح ببردة كاد طول العهد يبليها، أو لأنه ينام فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً بهذه البردة، وإنما عظمته مستمدة من «قيمة الزهد» والتعفف عن المال العام. كذلك الروايات التى قيلت عن سعيد بن عامر. لم يكن عظيماً لمجرد أنه كان يخبز لأهله أو يحتجب لآخر النهار يوماً كل أسبوع ليغسل ثوبه الوحيد وينتظر حتى يجف، ولا كان سلمان الفارسى عظيماً لأنه كان يجدل المكاتل وهو والٍ بالمدائن. هذا التراث قيمته ليست فى مجرد «الصورة» إنما فى المعنى والمغزى. وتبعاً للمغزى تتغير «الصور» تبعاً لأحكام زمانها. لذلك فرق العلماء الثقات بين السنة التى تقضى بأحكام دائمة، وبين ما يسمى «السنة الوقتية» أو «الظرفية» التى كانت تواجه ظرفاً أو وقتاً، ولا تقصد الزمان بطوله فى كل وقت وفى جميع الظروف. فى هذا ألَّف العلماء الثقات كتباً، ودبّجوا مقالات، قرأنا فى ذلك لأستاذنا الجليل الشيخ عبدالوهاب خلاف الذى تخرجت على يديه أجيال، والكتاب الضافى «تعليل الأحكام» لأستاذنا الشيخ محمد مصطفى شلبى، وغيرهما.

لن ينتج العصر عظماء أمثال الصديق وعمر بن الخطاب وعلىّ بن أبى طالب وغيرهم، ما لم نفهم أنهم بلغوا العظمة بظروف ومقاييس زمانهم.. لا بزىٍّ ولا بملبس ولا بلحية ولا بمظهر، وإنما كانت عنايتهم بالمغزى والجوهر. لذلك لم يهدم هؤلاء وتابعوهم المراقد والأضرحة ومراقد أهل البيت، ولا تَعَدُّوا على آثار البشرية التى وجدوها قائمة ولا تزال حتى اليوم فى مصر، ولا هدموا ما هدمته حركة طالبان فى القرن الواحد والعشرين، ولا حرّموا ما أحله الله، ولا أفزعوا الناس وروعوهم بأوامر أو فتاوى متحجرة لا تفهم الدين حق فهمه.

إن الدين أمانة فى أعناقنا، واجبٌ علينا أن نتقدم إليه. أن نعيه ونفهمه ونتأمل حكمته ومغزاه، لنعرف حقيقة أوامره ونواهيه. إنه دينُ حياةٍ لأحياء. لا يحتقر الحياة ولا يزدريها، وحياة الإنسان وعمله على الأرض هما المحك الحقيقى لميزانه عند ربه، سبحان القائل: {تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك 1، 2).
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف