قصص المطربات اللائى لعبن دوراً فى كتاب تاريخ الملوك والسلاطين عديدة ومتنوعة، بما فى ذلك من يتمتعون منهم بصورة شديدة النقاء لدى جمهرة المسلمين، مثل صلاح الدين الأيوبى، وربما يأتى يوم أحكى لك فيه عن المغنية التى خاض السلطان الناصر حرباً من أجلها. لنلتفت الآن إلى «سلّامة الأحوص» المغنية الشهيرة التى ظهرت فى عصر يزيد بن معاوية. وهى غير «سلّامة القس» التى عالجت أم كلثوم قصتها فى أحد أفلامها.
لـ«سلامة الأحوص» قصة لا تقل طرافة عن قصة «سلامة القس». والخيط الجامع بين القصتين جوهره تجربة حب ملتهبة. لم تكن سلامة الأحوص مجرد مغنية، بل جمعت ما بين جمال الوجه والقد، ورجاحة العقل، وجمال الصوت، لذا كان من الطبيعى أن يفتتن بها الرجال ويجلسون إليها طلباً لمتعة النظر ونشوة الاستماع، ويتمنى كل منهم قربها، وأن تلعب الغيرة بينهم دورها فى تحديد مسارات الأحداث. وقد كان للغيرة دور خطير فى حياة «سلّامة». وكان ثمة رجلان شديدا الحرص على مجلس المغنية الشهيرة، هما عبدالرحمن بن حسان والأحوص بن محمد. وكانا يتنافسان على حبها، لكن قلبها مال إلى الثانى ليتعلق بالأحوص، فدبت الغيرة فى قلب عبدالرحمن وبدأ فى التحرك ثأراً لحبه الجريح. كان هناك طريق واحد حاسم لحل هذه المعضلة، هو طريق القصر الأموى، فتحرك إليه عبدالرحمن سريعاً.
رحل «ابن حسان» إلى يزيد بن معاوية فى الشام فامتدحه ودلّه على سلّامة وجمالها وحسنها وفصاحتها، وقال: لا تصلح إلا لك يا أمير المؤمنين وأن تكون من سُمّارك. فأرسل يزيد فاشتريت له وحملت إليه، فوقعت منه موقعاً عظيماً وفضّلها على جميع من عنده. لم يكتفِ «ابن حسان» بذلك فأراد أن يرى الحسرة فى عين غريمه فى حب «سلامة»، فرجع إلى المدينة فمر بالأحوص فوجده مهموماً فأراد أن يزيده إلى ما به من الهم هماً فقال له شعراً ينبئه من خلاله أن «سلامة» أصبحت فى حوزة «من ينال منها الشم والريحا». طوى «الأحوص» حبه بين جوانحه وحاول أن يتصبر عنه، ولكن هيهات. اندفع الرجل إلى ركوب الصعب وقرر الذهاب إلى حيث حُملت حبيبته، فسار إلى يزيد فامتدحه فأكرمه يزيد وحظى عنده.
لم يكن يزيد يعلم أن «الأحوص» لم يأتِ مدحاً للخليفة، بل بحثاً عن «سلامة» التى أوجعت قلبه بفراقها. علمت الأخيرة بوصول حبيبها ومبيته معها فى قصر الخليفة، فدست إليه خادماً وأعطته مالاً على أن يدخله إليها، فأخبر الخادم يزيد بذلك فقال امض لرسالتها ففعل. وأُدخل الأحوص عليها. وجلس يزيد فى مكانه يراهما ولا يريانه. فلما بصرت الجارية بالأحوص بكت إليه وبكى إليها، وأمرت فألقى له كرسى فقعد عليه، وجعل كل واحد منهما يشكو إلى صاحبه شدة شوقه إليه فلم يزالا يتحدثان إلى السحَر. ويزيد يسمع كلامهما من غير أن يكون بينهما ريبة، ثم ودعها وخرج. أراد الخليفة يزيد بن معاوية أن يتسلى بهذا المشهد الساخن بين حبيبين يلتقيان بعد فراق. وقف الاثنان أمامه فقال لهما يزيد: «أخبرانى عما كان فى ليلتكما واصدقانى، فأخبراه بحبهما. فما كان من يزيد إلا أن قال لهما: «إنكما لتصفان حباً شديداً، خذها يا أحوص فهى لك، ووصله صلة سنية». كان من حظ الأحوص أن يصادف خليفة كيزيد يطرب للحب والعشق فيرد عليه حبيبته ويعطيه فوق تلك النفحة نفحة مال!