عبد الجليل الشرنوبى
انتخابات الرئاسة بعيون (أحدهم)
كان كاتب هذه السطور فى زيارة لمدينته (دمنهور)، وَجْهُ المدينة بشوارعها الرئيسية ثابت دوما، ولكنه هذه المرة يكاد يكون متطابقاً مع شوارع القاهرة، ملامح المدينة الهادئة انسحبت عليها حالة صخب الدعاية الانتخابية، حيث طغت (لافتات التأييد للمرشح الرئاسى عبد الفتاح السيسي)، ليتحرك السائرون فى الشوارع تحت مظلة ممتدة من (بانرات ملونة)، جميعها توصل مضموناً واحداً للتأييد، بينما يتغير اسم المؤيد بين شخوص ومؤسسات وكيانات، الحالة العامة للواقع تستحيل مسرحاً يتحرك على خشبته طرفان رئيسيان، هما (المُؤَيَدْ) الذى هو المرشح، و(المؤَيِّدْ) الذى هو صاحب اللافتة، بينما يتوجه الجميع بخطابه، إلى جمهور يسير رامياً حمولاً ثِقالا على عشم قديم فى رب كريم العطاء قريب الفرج، وغير منتمٍ إلا إلى مصريته، هكذا كانت ملامح المناخ الانتخابى الذى لف حالة الرؤية الدافعة للتدبر أملاً فى محاولة كتابة تستهدف البناء للقادم، حاملة أمانى كل (أحدهم) على مسرح الوطن.
وتُلح على حالة التدبر أحداث (أحدهم)، وهو الاسم الذى كان عنواناً لعرض مسرحي، تضافرت فى إخراجه للمشاهدين، طاقات إبداعية شابة واعدة، ليشارك بقوة ضمن فعاليات مهرجان (نقابة المهن التمثيلية المسرحي) على مسرح القصر العينى فى الشتاء الذى نودعه، قادت فريق المبدعين المخرجة (ناهد السيد)، التى اختارت أوراق مسرحية صاغها بأدوات واثقة الكاتب (محمد عبد المولى) معيداً إنتاج فكرة ثورة الشخصيات على المؤلف مطالبة بتغيير واقعها ويبدأ الصراع فيما بين الشخصيات الرئيسية (البطل الشرير الجميلة) حتى يدخل على خط الصراع الشخصية الهامشية التى يُشار إليها بكلمة (أحدهم)، قدم هذا العرض فريق من شباب الممثلين الواعدين (محمود ندا -تامر القاضى -شريهان قطب -أرمانى مشرقى -محمد مجدي)، وجميعهم على موهبتهم المتدفقة، يمكن أن يحملوا فى عالم نجومية السوق صفة (أحدهم)، فرغم أنهم فى مطلع رحلتهم الإبداعية، فإنهم استطاعوا أن يقدموا عالماً مسرحياً مصرياً متكامل الفكرة، متدفق الأداء، متعاشق اللغة عامية وفصحى، قادراً على انتزاع الضحكات الصافيات من مر الواقع، ومثيراً للتدبر فى مشهد القادم، باختصار كانوا (أحدهم) المسرحى الذى يؤكد أن فنون مصر لن تنضب.
تداعى ما كان فى عرض (أحدهم) يقطعه (أحدهم)، يستوقف خطواتى بجوار مسجد (التقوى) بمدينة دمنهور عم (إبراهيم المكوجي)، ببنيته التى نحلها الكد على المعايش، وبسمرته التى تختمر فيها وجوه مصر المنحوتة على جدران التاريخ، وبابتسامة شفتيه الندية بفعل تحريك لسانه عليهما كل حين، يسلم عليَّ ويسأل بلهفة (هنعمل إيه فى الانتخابات يا أستاذ؟)، تربكنى لهفته ومن بعدها السؤال فأستفهم (انتخابات إيه؟)، فيجيب بحماس (انتخابات الرئاسة خلاص فاضل كام يوم)، وأقرر أن أرمى الكرة فى ملعب الرجل، (إنت شايف إيه يا عم إبراهيم؟)، وبغير تردد يقول الرجل (هنروح وننتخب ونشارك ونقول يارب، وهو أكيد عمره ما هيخيب ظن الغلابة، إحنا يعنى عاوزين إيه؟!، والله العظيم تلاته ما عاوزين إلا الستر، والحمد لله إحنا أحسن من غيرنا ولسه، بس نصبر، وأكيد ربنا مش هيضيعها ولا يضيعنا دا احنا غلابة).
ودعنى المكوجى (أحدهم) بعدما قطع تدفق الأحداث على خشبة مسرح الواقع، مؤكداً أن ذلك المهمش الساقط من حسابات عصور الفساد والإفساد، قد صقلته أوجاع السنون، فبات قادراً على تلخيص مشهد المصير، فكل (أحدهم) بات موقناً أن لمشاركته قيمة رغم رقة حاله (غُلْبُه)، وهى كفعل إيجابى غير منفصلة عن إيمانه القديم برب كريم، وهى تتويج لانتصار فى جولة الحفاظ على الوطن، وأمانة يضعها فى رقبة الموكل بالإدارة، مطلبها (الستر) الذى تترجمه أبسط الحقوق الطبيعية الأساسية (مأكل ومشرب وأمن وصحة وتعليم). بعيداً عن مسرح الواقع الذى يضج باللافتات، يؤكد (أحدهم) الذى يسير فى كل أزقة الوطن وحواريه أنه البطل، وأن كل استهداف للمستقبل ينبغى أن ينطلق من تفعيل هياكل الجموع التى تحمل اسم (أحدهم) فى كل المجالات، ومما لاشك فيه أن النخب الوطنية بكامل تخصصاتها وأطيافها، بحاجة إلى إعادة صياغة استراتيجياتها وآلياتها بحيث تبدأ إعادة طرح ذاتها عبر مد جسور الحضور التحتى مع كل (أحدهم) فى قطاعات المصريين، مع ضرورة التنبه لأن آليات بناء الأوطان فى أزمنة الاستهداف، لا تقوم على عقائد الانحياز يميناً ويساراً، ولا تستقيم بأدوات التصنيف المُفَتِت، وآليات الشخصنة المشتتة، وإنما يلزمها عقائد تؤمن بالوطن إيمان العوام، وأدوات تربط الخلائق بجذور منبتها الوطني، فلا يفتنها غريب، ولا يغويها قريب، ولا يهزمها عدو، إن كل (أحدهم) فى هذا الوطن يُحَمِّل كل متصدر لمشهده أمانة، تتجاوز لافتات مواسم الانتخابات، إلى استحقاقات الثقة فى وطن معقود بناصيته الآمال.