فرخندة حسن
الكون ... هذا المجهول الذي يحتوينا
جاء منذ أربعة عشر قرناً من الزمان في تعاليم الدين الإسلامي من خلال قرابة سبعمائة وخمسين آية من آيات القرآن الكريم، تحث بني الإنسان علي التأمل في الكون والتمعن في الظواهر الكونية واستخدام العقل لمعرفة كيف نشأت وكيف تعمل وتحري حقيقة هذا النظام الكوني الذي نعيش فيه.
جاءت هذه الفقرة في كلمة البروفيسور / م. عبد السلام العالم الباكستاني الكبير في حفل أقيم بمناسبة منحه جائزة نوبل في الفيزياء في استوكهولم بحضور ملك السويد في عام 1979.
شعرت أنه من واجبي أن أحاول في سلسلة من المقالات تناول طبيعة الكون ونشأته وما يحتويه وما يحدث فيه بأسلوب يتيح للشخص العادي غير المتخصص استيعاب ما يرد ذكره من المعارف العلمية وهو ما يمكنه من التمعن في الظواهر الكونية واستخدام العقل لمعرفة كيف تعمل إيماناً بما ورد في كتاب الله الكريم.
الكون ببساطة شديدة هو كل ما نراه وما لا نراه كل ما نعرفه وما لا نعرفه وكلما تصور العلماء أنهم توصلوا إلي معرفة حقيقة الكون تكشف الأبحاث العلمية جديداً كل يوم يدل علي أنه مازال مجهولاً حتي يومنا هذا، وهو ما لا يسعنا معه إلا أن نزداد إيماناً بالله الذي بقدرته سبحانه وتعالي نشأ هذا الكون الذي يحتوينا.
كان أول نموذج للكون عرفه التاريخ هو ما سجلَّه المصريون القدماء منذ حوالي أربعة وثلاثين قرناً من الزمان في النقوش التي تصف فترة حكم الفرعون سيتي الأول في عهد الأسرة التاسعة عشر (1313 - 1292 ق.م.)، وأيضاً في معبد أبيدوس في مركز البلينا في محافظة سوهاج، ونموذج آخر مشابه له في مقبرة رمسيس الرابع في عهد الأسرة العشرين (1167 - 1161 ق.م.).
كان لصفاء السماء في مصر علي مدار العام تقريباً ولجوها المعتدل في معظم فصول السنة أثر كبير علي تحفيز المصريين القدماء علي التأمل في السماء ومتابعة حركة ما يرونه من أجسام سماوية مضيئة بما في ذلك القمر والكواكب وكانوا يعتقدون أنها كلها نجوم تتكون من مواد سماوية تشع الضوء ليلاً فقدسوها واعتبروها آلهة، وتابعوا حركتها ليلة بعد ليلة.
اعتقد المصريون القدماء أن ما يرونه في السماء وما حولهم في الأرض التي يعيشون عليها هو الكون كله وأن لهذا الكون إلهين إلهة للسماء أسموها »نوت» وإله للأرض أسموه »جب» وتصوروا »نوت» علي شكل قوس كبير ومحمله علي ذراعيها وسيقانها وهي التي تلد كل هذه الأجسام السماوية ويتمدد تحتها في الوسط ثابتاً لا يتحرك الإله »جب» أي الأرض، وأن »نوت» إلهة السماء هي التي تتحرك حاملة معها كل الأجسام السماوية بما في ذلك الشمس أو الإله رع وهو الإله الرئيسي الذي يبزغ من مكان معين في دائرة الأفق (الشرق) ويمضي بعض الوقت (اليوم) في عالم الأحياء ويختفي في الجهة الأخري من الأفق (الغرب) ليمضي الليل في عالم الأموات.
تدارس اليونانيون القدماء هذا النموذج المصري القديم واستوعبوه في فترة نضوج الحضارة اليونانية الهيلينستية التي نشأت ملامحها في القرن الرابع قبل الميلاد في الإسكندرية عندما هاجر إليها العلماء اليونانيون هرباً من الاضطهاد السياسي والاجتماعي الذي تعرضوا له في موطنهم الأصلي خاصةً بعد الاغتيال السياسي لسقراط أحد أهم فلاسفة النهضة الإغريقية الهيلينية القديمة التي كانت مزدهرة في أثينا. نضجت النهضة اليونانية الهيلينستية في الإسكندرية خاصةً بعد فتح الإسكندر الأكبر لها، واستمرت حتي القرن الخامس الميلادي. استوعب اليونانيون النموذج المصري القديم بذكاء شديد وطوروه بدرجة مشهود لها وتوصلوا إلي نموذج متميز مازال العالم يستند إليه ويستخدمه لوصف الحركات الظاهرية للأجسام السماوية حتي يومنا هذا. يتشابه النموذج الإغريقي القديم والنموذج المصري القديم في أن كلا النموذجين يضع الأرض في مركز الكون وفي كونها ثابتة لا تتحرك وأن كل الأجسام التي نراها في السماء هي التي تدور حولها. ويختلف النموذج الإغريقي في أن السماء ليست علي شكل قوس كما في النموذج المصري القديم، بل علي شكل كرة هائلة تحيط بالأرض التي صوروها أيضاً علي شكل كرة صغيرة. وتشترك الكرتان الكبري والصغري في المركز والمحور. ولا يوجد عالم أموات كما هو الحال في النموذج المصري القديم.
هكذا كان الكون في أعين القدماء حتي وقتنا هذا لا توجد معلومة حقيقية مؤكدة عن نشأة وأصل الكون وما هو مطروح علي الساحة العلمية هو عدد من النظريات لكل منها مؤيدوها ومعارضوها ... وهو ما سيتم تناوله في مقالات تالية.