الأخبار
رجائى عطية
براءة الأديان من العداوات

أصعب ما تواجهه الديانات بعامة، يحدث حين تتسع »المساحة»‬ أو »‬الخرق» أو »‬الفلق» بين الدين بذاته وموضوعه وروحه، وبين فهم أتباعه ـ أو بعض أتباعه ـ له .. هذا »‬الابتعاد» عن الدين يجري وفي فهم »‬ الباعدين» أو »‬المُبْعدين» أو »‬الشاردين» أنهم الأكبر فهمًا والأكثر صدقًا وإخلاصًا واتباعًا . وبغض النظر عن »‬ الخصوصية » اليهودية في موقفها من الغير أو الآخر، فإن الأديان في نبعها الصافي البريء من الملصقات والإضافات والموروثات والمصالح ـ تتخذ بقدر أو بآخر، موقفًا إنسانيًا إيجابيًا سمحًا من الأغيار، يتفق مع مرجعيتها الأخلاقية من ناحية، ويليق بها من ناحية أخري كديانة تسعي لصلاح الحياة وشد الناس إلي الرب جل وعلا وربطهم بالمثل الأعلي .
الديانات السماوية جميعًا كلمة الله !
لا تحمل الأديان السماوية في بنيتها الأصلية أسبابًا للصراع، فلا توجد في الواقع أسباب للصراع بين عقائد الديانات السماوية لأنها جميعا كلمة الله، فلا تناقض بينها، ولأن العقائد بذاتها مسألة قلبية وجدانية مختصة بالمعتقد دون سواه، تتعلق به فلا يقلقلها أو يزعزعها اعتقاد سواه، ولا هي بذاتها تصارع أو تقاتل معتقدات الآخرين .. ولذلك فإن ما طرأ علي »‬ العقائد » دخيلاً ـ في بعض الأديان ـ علي كلمة السماء ـ لم يكن بذاته سببا لتصادم أو صراع أو تقاتل، فلا تصادمت المسيحية والإسلام في شأن عقيدة التوحيد علي ما بينهما من اختلاف يجتهد كل طرف في إبانة صدق رؤيته فيه دون صراع أو تصادم أو قتال، ولا حدث صراع أو اقتتال بين المسيحية والإسلام من ناحية، وبين اليهودية من ناحية أخري، رغم اتفاق المسيحية والإسلام علي أن اليهود عادوا السيد المسيح عليه السلام وتعقبوه بالكيد والنكال والتآمر، ورغم اتفاق الأناجيل المسيحية مع القرآن علي مسئولية اليهود عن »‬ الصلب » وإن اختلفتا في »‬ شخص » المصلوب .. هل هو السيد المسيح بذاته وشخصه كما يؤمن المسيحيون، أم أنه عليه السلام قد رفع إلي ربه وشبه الأمر علي الصالبين فظنوا أنهم يصلبونه بينما صلبوا سواه !! .. فلا تصارعت المسيحية وتقاتلت مع الإسلام في جزئية شخص المصلوب، ولا تصارعت وتقاتلت المسيحية والإسلام مع اليهود الذين أجمعت الديانتان علي أنهم المسئولون عن هذه المأساة !
من الذي يعادي السامية ؟!
أكثر الاتهامات اليهودية ذيوعًا وانتشارًا وظلمًا أيضًا، اتهام الآخرين بمعاداة السامية، وهو اتهام يصادر علي البحث والنظر والتحليل لسبر الأغوار واستخلاص الأسباب، في الماضي والحاضر، لعل ذلك يسهم في تخليص الإنسانية من ويلات جرت وأخري أبأس وأشر تنتظر وعلي وشك أن تنفجر !! ..
من الاتهامات اليهودية التي أشهرت أخيرًا تحت هذا العنوان، مشروع صهيوني مشبوه قدم للكونجرس الأمريكي في ميقات مشبوه من يهودي أمريكي صهيوني الهوي ـ دفع به إلي الكونجرس قبل الزيارة المرتقبة للرئيس المصري الأسبق حسني مبارك إلي الولايات المتحدة الأمريكية، يتهم فيه مصر بمعاداة السامية، ويطلب صاحب المشروع : أنتوني وينر ـ تخفيض المساعدات لمصر عقابًا لها علي هذا العداء (المزعوم) للسامية، لأنها ـ فيما تدعي بنود المشروع الصهيوني ـ تساعد الانتفاضة الفلسطينية، وظلت عضوا ـ تصوروا ؟!! ـ في الجامعة العربية التي تقاطع إسرائيل، كما أنها سحبت سفيرها من إسرائيل في نوفمبر 2000، وبداهة تجاهل المشروع : لماذا تم هذا السحب، فضلاً عن أن الصحف والإذاعة المصرية تبثان مقالات أو برامج تعتمد علي بروتوكولات حكماء صهيون التي تعـادي السامية ـ فيما يقول السيناتور الصهيوني الذي نفذ إلي الكونجرس والعمل السياسي عبر الممر السحري للوبي الصهيوني في أمريكا !!!
هذا الاتهام المغلوط اتهام متكرر، أشهرته الصهيونية سلفًا ضد المفكر الفرنسي المسلم روجيه جارودي، وعادت فأشهرته ضد المرحوم الأستاذ ابراهيم نافع رئيس تحرير ومجلس إدارة الأهرام ـ ويتعمد الاتهام المغلوط، والمشهر للإرهاب ولفت الأنظار عن مخططات وجرائم الصهيونية، أن ينسب الأمر إلي الإسلام، متهمًا إياه والمسلمين بأنهم يعادون السامية .
الاتهام الظالم للإسلام والمسلمين
وليس أكثر بطلانًا وظلمًا وابتعادًا عن الواقع والحقيقة ـ من اتهام الإسلام والمسلمين، ومصر والعرب بعامة، بمعاداة السامية، ولا يرجع بطلان هذا الاتهام فقط إلي كون العرب ـ بمنطق السلالات ـ من سلالة سام بن نوح الذي ينسب اليهود أنفسهم إليه، مدعين الطهارة العرقية والعرق اليهودي الممتد لآلاف السنين رغم الاختلافات الجنسية واللونية الظاهرة بين يهود بيض ويهود سود وبضعة يهود صُفْر، إلي جانب الكثير من الظلال اللونية علي ما أورده الدكتور المسيري في موسوعته الرائعة عن اليهود واليهودية، فيحصي من بحوث الأنثروبولوجيا التي كان قد بدأها جمال حمدان في كتابه اليهود أنثروبولوجيا، الجماعات اليهودية الأساسية الثلاث باختلافاتها : الاشكناز، والسفارد، ويهود العالم الإسلامي، ويتتبع الجماعات اليهودية المنقرضة أو الهامشية : اليهود المتخفون، والأنوسيم أو المُكرهون، والبرتغاليون من »‬ المارانو » الذين خرجوا من شبة جزيرة أيبريا، والمتخفون في إيران، والتشويتاس ـ من كلمة تشويا بلهجة مايوركا الأسبانية، ويهود الهند، والمجموعة التي كانت تقطن منهم أساسًا في منطقة كونكان، ويهود الكوشين ـ إحدي المدن الهندية، والمانيبور بالهند، والقوقاز، وجورجيا، والبغدادية، ويهود بخاري وجبال التات وداغستان السوفيتية، والخرز المنحدرون من أصول تركية في منخفض الفولجا بجنوب روسيا، والكرمشاكي بشبة جزيرة القرم، والأكراد، ويهود الكايفنج بالصين، واليهود الزنوج الذين يضمون الفلاشاه الأحباش والعبرانيين السود .. وهو ما يستحيل معه أن ينسب هؤلاء جميعًا إلي سلالة واحدة ترتفع إلي سام بن نوح !!
حكاية العرق الواحد، وطهارة الجنس، مع باقي التداعيات المستخلصة منه ـ قد تصلح بل تصلح لبحث آخر يفسر موقف اليهود أو الصهيونية من الأغيار، وموقف الأغيار منهم، وهو مبحث يجب العودة إليه ـ علي أن المعني هنا، في خصوصية إشهار الاتهام المغلوط بمعاداة السامية ـ أن مصر والعرب والمسلمين آخر من يوجه إليهم هذا الاتهام، ليس فقط لأنهم ساميون بمنطق السلالات والأعراق، وإنما لأن الإسلام ـ الدين الغالب بالمنطقة العربية ومصر ـ يرفض منطق الأعراق والأجناس رفضًا كاملاً، فلا ينتصر لجنس من الأجناس ولا يعـادي عِرقًا من الأعراق .
في الإسلام: الإنسانية أسرة واحدة
مصير الآدمي معلق بعمله لا بعرقه !
خلافـًا للأديان السابقة التي نزلت لقوم نوح أو هود أو صالح أو شعيب أو موسي أو هارون، نزل الإسلام إلي العالمين، وإلي الناس كافة، ولفت نظر الإنسانية إلي أنها أسرة واحدة ترجع إلي أصل واحد، وإلي خلقة واحدة .. في القرآن المجيد : »‬ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء » (النساء 1) .. »‬ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا » (الأعراف 189) »‬ وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ » (الأنعام 98) .. لا فرق في الإسلام بين جنس وجنس، ولا بين عِرق وعِرق، ولا بين شعب وشعب، وإنما رَفَضَ الإسلام ونَهَيَ عن كل أنواع العصبية العرقية، ودعا إلي أخوة إنسانية فقال تعالي في قرآنه المجيد : »‬ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَي وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » (الحجرات 13).
من أروع ما في الإسلام انطلاقًا من هذا المبدأ الأساسي، أن المسئولية شخصية .. مصير الإنسان معلق بعمله وفعله وسلوكه، لا بفعل سواه . في القرآن الحكيم : »‬ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا » (الإسراء 13) .. »‬ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ » (الطور21) .. وفيه أيضًا : »‬ ولا تزر وازرة وزر أخري » (الأنعام 164، فاطر18) .. »‬ أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَي * وَأَن لَّيْسَ للإنسَانِ إِلاّ مَا سَعَي » (النجم 38، 39) .. »‬ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ » (الزلزلة 7، 8). الإنسان لا يُسأل في شريعة الإسلام إلاّ عن فعله .. فلا تحل التبعة علي أحد، إلاّ علي ما ارتكب وقارف وفعل . لا يعادي الإسلام جنسًا ولا عِرقًا ولا يُجافي لونًا ولا سلالة، ثم هو لا يأخذ أحدًا بوزر آخر، ولا يُدين ابنًا أو حفيدًا بجرائر آبائه وأجداده، ولا يجد أحدًا بحاجة إلي »‬ خلاص » مما قارفه الأسلاف، وإنما يعتنق الإسلام أن مسئولية الآدمي مُعلقة بفعله، فلا تزر وازرة وزر أخري، ولا يرث الأحفاد جرائم الأجداد .. فكل إنسان طائره في عنقه، مسئول عما يفعل لا عما فعل أو يفعله سواه !
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف