بإمكان الإنسان أن يُغمض عينيه عما يراه الجميع، لكن ذلك لا يعنى أن ما رآه ويراه الناس سوف يتغير. فى مقدور أى فرد أن يصم أذنه عن الاستماع إلى الحقيقة، لكن ذلك لن يؤدى إلى اختفاء الحقيقة الماثلة عن الأرض. العاقل لا يقتنع بالصور ويترك الواقع، ويُصغى للشقشقات اللفظية الفارعة، ولا يلتفت إلى الكلام الذى ينقل الواقع كما هو واقع. هذه المعانى تستطيع أن تستخلصها من واحدة من أمتع قصص «كليلة ودمنة» التى أراد الفيلسوف «بيدبا» من خلالها نصح الملك من خلال مجموعة من القصص التى تأتى على لسان الطير والحيوان وكذا البشر، وتحمل الكثير من الحكم والعبر.
إنها قصة «المُصدّق المخدوع» التى تحكى حكاية لص اعتلى سطح بيت أحد كبار الأغنياء بهدف سرقته، واستعان فى ذلك بأفراد من عصابته. فلما وصل اللص إلى سطح البيت تحدّث إلى بعض من معه بصوت أيقظ الثرى صاحب الدار، فلكز زوجته وأيقظها. وقال لها إنه يشك فى أن ثمة لصوصاً اعتلوا السطح، وأنهم بلا شك سيهبطون فى لحظة لينهبوا ما فى الدار. سألته الزوجة: وما العمل؟. أجابها: اسألينى بصوت مرتفع يسمعه اللصوص عن مصدر هذه الثروة الكبيرة التى أحوزها؟. فانصاعت الزوجة، وقالت له بأعلى صوت: من أين لك هذا المال، وتلك الكنوز يا رجل؟. فأجاب التاجر: استرى على يا امرأتى. الزوجة: لا بد أن تُفضى إلىّ بسرك. الرجل: سأقول لك، لكن لا تُفشى أمرى لأحد. ردت الزوجة: أفعل. قال الرجل: إنى واحد من كبار اللصوص، وأحد الراسخين فى علم اللصوصية، وقد وصلت إلى «كلمة سر» تساعدنى على سرقة أى مكان وأنا فى مأمن من أصحابه. فسألته الزوجة: كيف؟. قال: كلمة أقولها تحل لى كل المشكلات. الزوجة: ما هى؟. الرجل: «شولم شولم». إننى أقف أمام الكوة «الفجوة» التى تفضى إلى أى بيت من سطحه، ثم أنظر إلى ضوء القمر وأقول «شولم شولم» ثم أعتنق ضوءه وأهبط آمناً من السطح إلى الدار. ثم أتلوها أخرى فتظهر أمامى كل الكنوز والأموال التى توجد فى البيت فأجمعها وأخرج.
استمع زعيم العصابة الذى يختبئ فوق سطح البيت إلى الحوار كاملاً، فقال لأصدقائه من اللصوص لقد أهدانا هذا الرجل علماً أهم بكثير من المال الذى يمكن أن نسرقه منه، ومع ذلك ستكون داره أول مكان نطبّق فيه ما تعلمناه. وقف المُصدّق المخدوع أمام كوة البيت، ثم نظر إلى القمر، وقال «شولم شولم»، وتوكل على سذاجة عقله وانحدر إلى البيت فوقع على أم رأسه، وكان صاحب الدار فى انتظاره بعصا غليظة أوجعه بها، ثم سلّمه إلى العسس.
إنها قصة تحكى لك كيف يمكن أن ينخدع «الشاطر» بمنتهى البساطة، عندما يبيع عقله، ولا يفهم أن الواقع لا تتحدّث عنه سوى الحقائق، وأن عليه أن يتعامل بناءً على الحقائق الموجودة على الأرض وليس على الصور المخادعة أو الألفاظ التى يضحك بها الآخرون عليه، ويزعمون أن لها سحراً خاصاً، وقادرة على حل كل العقد، من طراز «شولم شولم»!.