الأهرام
نيفين مسعد
جدل المشاركة والمقاطعة
فى فبراير 2014 كتبتُ مقالا فى جريدة الشروق المصرية بعنوان «الشعر الأبيض فى الطابور» انتقدتُ فيه الحملة التى قادها الشباب ضد إقبال كبار السن على ممارسة حقهم فى الاستفتاء على الدستور. كانت الحملة جارحة اتهمت الآباء والأجداد بأنهم هم الذين دعموا سياسات الرئيس عبد الناصر، هذه السياسات التى اعتدنا على أنها صارت الشماعة التى يعلق عليها الجميع أخطاءهم وإن غاب عبد الناصر عن المشهد برمته من سنين طويلة. وزاد الناقدون فقالوا إنه كما أساء كبار السن لماضى الوطن هاهم يصادرون على مستقبله من خلال اصطفافهم وراء النظام الذى انبثق عن 30 يونيو. لم تكن هذه الحملة جارحة فقط وتعاملت مع كبار السن باعتبارهم مثل خَيل الحكومة ما أن تشيخ حتى يتم إطلاق الرصاص عليها، لكنها أيضا كانت ظالمة لأنها جعلت من الأبناء والأحفاد أوصياء على آبائهم وأجدادهم، رغم أن هؤلاء الشباب كثيرا ما ضاقوا ذرعا بوصاية الجيل الأكبر منهم، هذه واحدة. والأخرى إن دستور 2014 الذى اصطف كبار السن للتصويت عليه هو أحد أهم منجزات 30 يونيو وفيه من الحقوق والحريات ما ناضل المصريون من كل الأعمار للحصول عليه، وبالتالى فعندما يطالب الشباب بمقاطعة الاستفتاء فإن هذا يعنى إهدار تاريخ طويل من التضحيات من أجل مستقبل أفضل . والثالثة إن أحدا لا يستطيع أن ينكر دور الجيل الأكبر لا فى التمهيد لثورة يناير ولا فى قيادة المعارضة بعدها وتشكيل جبهة الإنقاذ التى مهدت لإطاحة حكم جماعة الإخوان، هذه الجماعة التى تظاهر الشباب واحتشدوا فى الساحات رفضا لها وتنديدا بها.

اليوم تتكرر الحملة ضد كبار السن الذين شاركوا فى انتخابات الرئاسة بعد أن أصبح وجودهم ملحوظا فى المشهد الانتخابى ، ويتم الاعتماد على ڤيديو هنا أوصورة هناك لكيل الاتهامات لأصحاب الشعر الأبيض، وفى هذا المقام يمكن إضافة مجموعة من الملاحظات الأساسية. الملاحظة الأولى أن أحدا لا يمكن أن يدعى سعادته بمقاطعة قطاع من الشباب انتخابات الرئاسة، وهؤلاء الشباب لهم موقفهم ومطلوب أن نستمع إليهم. وهنا أنا أتكلم عن هذا الفريق من الشباب الذى كان يتمنى أن يشهد تعددية حقيقية فى الانتخابات الرئاسية وليس عن ذلك الفريق الذى يعارض مسار 30يونيو برمته فهذا له شأن آخر. بطبيعة الحال تكتسب أى معركة انتخابية زخمها من تعدد الخيارات وامتلاك المتنافسين فرصا حقيقية للفوز وتعرضهم لتهديد حقيقى بالخسارة، وتعبير المعركة الانتخابية نفسه يدل على هذا المعنى بكل وضوح. وبالتالى فعندما يعزف قطاع من الشباب عن المشاركة اقتناعا منه بأن النتيجة محسومة سلفاَ فإن له وجهة نظره، وعندما يتحفظ بعض الشباب على القول إن المنافسة قائمة فعلا بوجود منافسين إقليميين ودوليين للرئيس السيسى ويرد على هذا القول بأن التهديدات الخارجية شىء والمنافسة الانتخابية شىء آخر فإن له منطقه. لكن ليس من المقبول أن يطالب هؤلاء الشباب بتعددية المرشحين ويتمسكوا فى الوقت نفسه بأحادية الموقف من العملية الانتخابية، أو أن ينتقدوا حث المواطنين على التصويت ويضغطوا هم أنفسهم من أجل المقاطعة ، فهذا فيه نقض لاثنين من أسس الديمقراطية وهما التعددية من جانب والاختيار الحر من جانب آخر.

الملاحظة الثانية أن الخوف من المستقبل يمثل هاجسا لدى قطاع من المصريين عموما ومن كبار السن خصوصا، وقد اجتازوا على مدار السنوات السبع السابقة من التقلبات ما يجعلهم يتمسكون بالاستقرار ويصوتون ضد أى احتمال للتغيير. يقول قائل من أين يأتى الخوف من التغيير والنتيجة محسومة تقريبا؟ والرد بأن المشاعر الإنسانية ومنها الشعور بالخوف لا تخضع للتفسيرات المنطقية، وإلا ما خاف أحد من ظله، ولهذه المشاعر تأثير لا يستهان به. لقد أتيحت لى فرصة المشاركة فى وفد المجلس القومى لحقوق الإنسان لمراقبة الانتخابات، وشاهدت بعينى العديد من كبار السن الذين يتحاملون على أنفسهم ، يتكئون على عِصِيِّهم أو يدفعون عجلات مقاعدهم المتحركة ليدلوا بأصواتهم، وما من قوة فى الأرض كانت قادرة على تحريك هؤلاء الكبار من أصحاب الخطوات المحسوبة إلا إن كانوا يريدون ذلك فعلا. ثم إن من حق هؤلاء الكبار أن يتساءلوا أين ذهبت وماذا قدمت الحركات الشبابية التى تشكلت بعد ثورة يناير.

الملاحظة الثالثة إننا فى مرحلة ما بعد الانتخابات نحتاج أن نشتغل على ثلاث قضايا وثيقة الصِّلة بمستقبل هذا الوطن، القضية الأولى هى تطوير الثقافة السياسية بما يجعلها تؤكد قيم التسامح مع الاختلاف بدلا من التنابذ والتشاتم بين المختلفين، فإن من يطالع وسائل التواصل الاجتماعى تصدمه هذه الحملات المتبادلة بين المقاطعين والمشاركين والتى لا ينقصها شيء من أسباب التخوين والتكفير. وهذا العمل هو مهمة تربوية إعلامية حزبية مجتمعية مشتركة ما يعنى أن الأمر يحتاج لتضافر جهود عدد كبير من مؤسسات الدولة والجمعيات الأهلية. والقضية الثانية هى توسيع المجال العام وهذا بالمناسبة وثيق الصِّلة بالقضية الأولي، فمن دون تقبل الاختلاف السياسى لن يكون هناك تعدد فى المنابر والتيارات. والتعدد الذى أقصده هنا هو التعدد الحقيقى لا الشكلي، فمن حيث الشكل لدينا أكثر من مائة حزب لكن دون فعالية تذكر، فلماذا لا يتم تجميع الأحزاب المتماثلة فى عدد محدود وفاعل؟. أما القضية الثالثة والأخيرة فهى زيادة برامج إعداد الكوادر الشبابية تمهيدا لإدماج العناصر المتميزة منها فى العملية السياسية.

لقد كتبتُ خلال أربعة أعوام مقالين فى الموضوع نفسه أدافع فيهما عن حق جيل الكبار فى المشاركة السياسية والاختيار الحر، وأتمنى ألا أضطر لكتابة مقال ثالث فى الانتخابات المحلية المقبلة، أما ما أتمناه من كل قلبى فهو أن يأتى ذلك اليوم الذى يطغى فيه داخل لجان الانتخاب الشعر الأسود على الشعر الأبيض، فالمشاركة السياسية ليست فقط محك الديمقراطية لكنها أيضا جوهر المواطنة.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف