الأهرام
د . محمد حسين ابو الحسن
أخطر القضايا.. وأنبل المعارك
ظلت النخب العربية تنادى بالحرية أكثر من 60عاما، لكن الحصاد كان هزيلا، سعت إلى نشر بذور التنوير العقلى، فانتعش الفكر المتطرف والإرهاب، وآلت جهود مقاومة الغزو الثقافى إلى انبطاح للغرب، أما أخطر معارك الشعوب العربية المستمرة حتى الآن فهى المعركة مع التخلف من أجل التقدم.

التحديث أو التقدم هو قضية العرب الأولى، وستبقى كذلك لأمد طويل، لأنها متداخلة مع قضايا الاستقلال والتحرر من التبعية، والعدالة بكل صورها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ومن ثم تتعاظم الضغوط، يوما بعد يوم، على العرب، لإجهاض جهودهم التحديثية، مثل إشعال الاضطرابات السياسية والاجتماعية والفكرية، التى تمزق نسيج بلاد العرب، والحروب الموجهة لاستنزاف طاقاتهم وإرباك جهودهم، لا هدف من وراء ذلك إلا عرقلتهم عن التقدم والتحديث، لأنه قضية القضايا ومفتاح أبواب المستقبل، فلا تحديث إلا بالتحرر والاستقلال والحرية والعدالة، عبر مشروع نهضوى واضح الملامح، عدا هذا جهود ضيقة الأفق ضئيلة النتائج.

وقد مر الفكر العربى الحديث بثلاث مراحل أساسية، خلال القرنين الماضيين، يمثل أولاها عصر محمد على باشا، مرحلة بزغت بعد ركود مصرى- عربى استمر قرونا تحت الحكم العثمانى التركى، ثم بث محمد على روحا جديدة فى أوصال المحروسة، استعار من التجربة والحداثة الأوروبية. فى البداية نجح نجاحا باهرا، ثم سقط سقوطا مدويا، لأسباب خارجية تتمثل فى التربص والاستعمار المباشر، وثغرات داخلية لإهماله الشعب وعدم الاكتراث به وهو يصوغ حساباته وطموحاته، ولما تكالب الأعداء على مشروعه، لم يجد الباشا من يدافع عنه من أبناء الشعب، استشعروا أن المشروع لا يعنيهم أو يهتم بهم.

وبرغم فشل مشروع محمد على، فإنه أثبت أن مصر والعرب من بعدها على استعداد تام للنجاح واللحاق بالركب العالمى، وربما التفوق أيضا، وأن كل ما يحتاجونه هو قيادة واعية مخلصة، تملك رؤية واضحة لمتطلبات العصر الحقيقية، كما أعطى دليلا قاطعا على أنه لا وجود لأى مشروع نهضوى دون الفكر والثقافة. مثلت أفكار رفاعة الطهطاوى وخير الدين التونسى وتلاميذهما، دعامة رئيسية لمشروع الباشا، مع بصمة ظاهرة لأفكار أتباع الفيلسوف الفرنسى سان سيمون، الأهم أنه لا يمكن أن يكتب النجاح لأى مشروع نهضوى ما لم يجعل هدفه الإنسان والعناية به، فهو الغاية والوسيلة.

ومن خمسينيات القرن العشرين إلى بداية السبعينيات، تفجرت المرحلة الثانية، فانطلق الفكر العربى يبنى مشروعا نهضويا، بعد يوليو 1952، توافرت فيه كل المقومات والفرص وكثير من الإمكانات، لاحت بوادر الأمل وبزغت بشائر الخير والعطاء، بيد أنه انكسر انكسارا مروعا، كسابقه: ضغوط خارجية عاتية لم تتح لمصر فرصة لالتقاط أنفاسها عقب الاستقلال، وأخطاء داخلية فادحة على مستوى الحكم والتنظيم السياسى واستبعاد الجماهير من الصورة، برغم إيمانها الشديد بالمشروع وثقتها العميقة بالقائد، وكانت كتابات المفكرين المتراكمة قبل 52 وبعدها، جناحا حلق به مشروع جمال عبدالناصر، لكنه افتقد الجناح الثانى، أى المشاركة الجماهيرية، حلق المشروع عاليا وما لبث أن هوى على نحو مؤلم.

ثم دخلت مصر المثخنة ودول عربية أخرى فى مرحلة ثالثة، بحثا عن النهوض، وبرغم القسمات التقدمية وسمات العصرنة، لاسيما فى الدول الجديدة، فإن تلك المرحلة يعدها مفكرون عرب مرحلة انحسار وتخبط، مشاريع تحديث بكل بلد عربى على حدة، مع هيمنة للأيديولوجيات الإسلاموية المتطرفة المعادية للتحديث، أوغير القادرة على استيعاب أهميته وضروراته، أو نخب تابعة للغرب فى كل المواقع، تخدم مصالحه على حساب الشعوب، دول تكتفى بالتحديث القشرى الزائف، تستهلك المنتجات الحديثة من الشرق والغرب، دون إسهام فى إبداع التكنولوجيا أوالإنتاج الكمى من خلالها، لغياب صناعات وطنية متطورة وزراعات قادرة على تلبية الاحتياجات الملحة للشعوب، وسط تشوه حاد فى أنماط العلاقات الثقافية والفكرية بالمجتمعات؛ ومن ثم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وصلت ذروتها فى موجة ما عرف بثورات الربيع العربى الذى صار خريفا موجعا.

إن السياسات التنمويّة «الناجحة» ليست سرّا أو لغزا، وبالطبع ليست سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين التى أسّست للنهب والفساد.. التحديث ممكن للغاية بشرط الحفاظ على الموارد الوطنية وضبط الاستهلاك، وإطلاق الاستثمار فى التصنيع والتكنولوجيا، كذلك ألا نتجاهل دروس التاريخ، فهذا معناه أن التاريخ لم يصنع واقعك أو يؤثر بمستقبلك فحسب، بل يعنى أيضا أنك غير واع لأثره، وتلك مأساة بحد ذاتها، ينبغى ألا نقع فيها ثانية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف