جمال سلطان
خطورة صناعة الأوثان السياسية
في أوائل فبراير 2011 والثورة الشعبية في مصر تحقق نصف انتصار في الشارع والميادين وظهور تفكك مؤسسات النظام القديم أو عجزها عن السيطرة والعمل ، لكن مبارك ما زال متمسكا بالسلطة ، كنت أذهب إلى ميدان التحرير مستخدما مترو الأنفاق من جهة كوبري القبة ، وننزل في محطة جمال عبد الناصر أمام دار القضاء العالي ، لأنهم أغلقوا محطة التحرير ، وأحيانا كانوا يغلقون محطة عبد الناصر أيضا فننزل قبلها ، وكان يركب معنا في هذا الخط بعض من عوام المصريين ، أذكر أن أحدهم شبه علي أنني من "بتوع الثورة" فراح يعطيني دروسا في الواقعية السياسية ، وقال لي إن مبارك يطعم وينفق على ثمانين مليون مصري ، هكذا تصور ، اتركوه يشوف شغله ، خلوه يكمل مشروعاته ، كان مبارك قد قضى في السلطة حوالي ثلاثين عاما ، ويتصور بعضهم أنها مدة لم تكن كافية لكي يحقق مشروعاته أو مدة كافية للحكم عليه ، ربما نعطيه نصف قرن على الأقل لكي يكمل انجازاته ، والحقيقة أن هذا المنطق كان لغة قطاع من كتاب السلطة وقتها في الصحف القومية وفضائيات الدولة ، لكن لغتهم ومنطقهم اختفى تدريجيا مع وضوح صورة أن الثورة في طريقها للانتصار .
أيضا ، عندما كان الناس ينتقدون مبارك ويطالبون برحيله ، كان السؤال المتكرر من قبل معسكر الواقعية السياسية : هل عندك بديل ؟ أعطني البديل قبل أن تتكلم ، مصر لا تتحمل المغامرة ، وكان هذا المنطق مهينا لمصر وشعبها بطبيعة الحال ، أنها لم تلد سوى مبارك الذي يصلح لقيادة الدولة ، وعقمت من بعده ، وأنه لا يوجد بين تسعين مليون مصري شخص أو أكثر يملك القدرة على القيادة ، والحقيقة أن هذا المنطق كان الحكام العرب يدركون أهمية تسويقه بين مواطنيهم جيدا ، لذلك كان الرئيس في أي دولة يحرص على أن ينهي مسيرة أي شخص تكون له "كاريزما" أو قبولا عاما أو شعبية ، خاصة في المؤسسة العسكرية أو في المجال الحزبي والسياسي ، وكان يتم تدميره بالمعنى الحرفي للتدمير وتلويث السمعة ، وكان صديق ليبي من مؤيدي القذافي يلخص لي تلك القاعدة في جملة : (علشان تنور لازم تضلم كل اللي حواليك) .
اليوم اكتشفت نفس الأصوات التي تعتصم بالواقعية السياسية إياها ، أن الرئيس عبد الفتاح السيسي قائد عظيم ، ليس هذا فحسب ، بل اكتشفت أنه حقق في أربع سنوات ما لم يحققه مبارك في ثلاثين سنة ، وبعضهم "يبحبح" المسافة بعض الشيء ، فيقول أنه حقق في السنوات الأربع ما لم يتحقق في مصر طوال أربعين سنة ، ليشمل السادات ومبارك معا ، ولم يستشعر هؤلاء أي مشاعر حرج من تناقض خطابهم أمس مع مبارك ، واكتشافهم عبقرية السيسي اليوم ، وها نحن نتحدث عن السيسي بنفس المنطق والخطاب الدعائي الذي كنا نتحدث به عن مبارك ، ومثله عن السادات ، وعندما مات عبد الناصر كانت الناس تبكي متصورة أن مصر ستموت من بعده ولن تقوم لها قائمة ، ولكن مصر قامت وانتصرت من بعده وحققت ما لم يحققه عبد الناصر منذ توليه السلطة .
الطريف أن نفس تلك الأصوات التي كانت تغني لعبقرية مبارك وأنه لا بديل له يصلح لقيادة مصر وأنه لا بد أن يمنح فرصته كاملة في القيادة ، عادت لتمتطي صهوة الإعلام من جديد وتروج لحكاية أن السيسي لا يكفيه مدتان رئاسيتان ، لا بد أن يعطيه المصريون وقتا كافيا لتحقيق طموحاته ومشروعاته ، كما هذه المدة المطلوبة يا حضرات ، لا أحد يقول لك شيء فالمسألة مفتوحة على التساهيل ، ولو بقي السيسي في منصبه أربعين عاما أخرى فستسمع في نهايتها نفس المنطق ونفس الحجة ، رغم أن أعظم دولة بل امبراطورية على وجه الأرض ، الولايات المتحدة الأمريكية ، يقودها رئيس لمدة أربع سنوات ، قد لا يكمل بعدها ، وإذا أكمل فلن يتجاوز مدة أخرى مشابهة ، ولا يجوز له بعدها تولي المنصب ، لضمان عدم تحول منصب الرئاسة إلى بؤرة استبداد وفساد وهيمنة وطغيان ، رغم أن الرئيس الأمريكي يدير شؤون العالم وبلاده حاضرة في أي حرب في أي بقعة على وجه الأرض أو أزمة أو اقتصاد أو ديبلوماسية وليس مجرد رئيس لدولة محدودة .
مصر ليست بحاجة إلى صناعة فرعون جديد ، يكفي ما فعله فيها الفراعين ، وعلى محترفي النفاق السياسي لكل العهود وخبراء دغدغة مشاعر الحكام وتحريك شهوتهم للتمسك بالسلطة أن يتوقفوا عن سمومهم ، لوجه الله ولوجه الوطن ، يكفينا إهدارا للفرص ، يكفينا تجارب ، يكفينا بيعا لأوطاننا على مذبح الاستبداد ، وانظروا إلى الدول التي كانت أقل منا شأنها قبل خمسين عاما ، وكيف وصلت لإنجازاتها الاقتصادية والتقنية والعلمية والاجتماعية والبنية الأساسية العملاقة ، مثل كوريا الجنوبية وماليزيا ، مصر ولادة بالكفاءات في كل مجال والشخصيات التي تملك الرؤية والإخلاص والقدرة على القيادة ، سواء من المدنيين أو من رجال القوات المسلحة ، مصر الآن أحوج ما تكون إلى المؤسسات ، مصر يتوجب أن تتحول إلى دولة مؤسسات وليست دولة الفرعون الواحد المهيمن على كل شيء فيها ، لا أمر إلا أمره ولا قرار إلا قراره ، لضمان تراكم الجهد الحضاري والعلمي والعمل واتساقه ، مصر بحاجة إلى مؤسسات حقيقية ومستقلة وليست مجرد ديكور ، دولة الرجل الواحد لا مستقبل لها ، وهي إلى انهيار بكل تأكيد ، أيا كان هو وأيا كانت هي .