المصريون
جمال سلطان
اللعب بالدستور فتنة ولعب بالنار
ثلاثة من رموز مرحلة مبارك تحدثوا خلال الأسبوع الماضي عن ضرورة تعديل الدستور ، وأنه غير مناسب عمليا لمصر الجديدة ، بعضهم لا يحدد بالضبط ما هو غير المناسب فيه ، وبعضهم يضع إصبعه مباشرة على "الجرح" وهو المادة التي تحظر تولي أي شخص منصب رئاسة الجمهورية أكثر من دورتين ، أي أكثر من ثماني سنوات ، وهذه المادة وضعت في دستور السيسي نفسه وليس دستور الإخوان ، دستور 2014 ، والقصد منها التأسي بالدول المتحضرة التي تحمي عملية تداول السلطة في إطار سلمي حضاري آمن ، يحمي الدولة من المفاجآت والمغامرات التي تحدث عادة عندما ينسد أفق التغيير السلمي للسلطة ، وهو الأمر الذي يشتكي منه السيسي نفسه عندما يصف حال البلد في السنوات السبع الماضية ، ويضرب المثل دائما بثورة يناير ، لكنه يعترف أن سبب الثورة مشروع والناس كانت تبحث عن التغيير وعن الأفضل ، فها هو الدستور الجديد الذي صدق عليه رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيس الجمهورية وقتها وأقسم على احترامه ـ كشرط لشرعية اعتلائه للسلطة ـ المشير عبد الفتاح السيسي ، وتم الأمر برضا شعبي جارف ، وشبه إجماع من التيارات الوطنية بكاملها ، بما في ذلك مؤيدي السيسي ومعارضيه ، باستثناء الإخوان وأنصارهم الذين يرفضون الليلة بكاملها ، ها هو يتعرض للتهديد والتمهيد للتلاعب به .
هذه المادة الدستورية عالية الأهمية والحساسية ، حصنها دستور 2014 نفسه أيضا في مادة أخرى ، لضمان أن لا يلعب الشياطين في أدمغة بعض الحكام ويغروهم بتعديلها وكسر السلم بعد الوصول إلى رأس السلطة حتى لا يصل أحد بعدهم إلا بوفاتهم ، فكانت المادة التي تحظر تعديل هذه المواد المتعلقة بانتخاب رئيس الجمهورية ، أي أن الدستور نفسه جعلها مادة فوق دستورية ، ولا يمكن الاستفتاء على تعديلها ، والحقيقة أن هذه المادة من أعظم المكاسب التي حققها الشعب المصري ، بل وحققتها الدولة نفسها ، ومن شأنها أن تمهد المستقبل لدولة متحضرة آمنة ومستقرة لا تتحمل مفاجآت ولا انقلابات ولا حتى ثورات ، لأن المسألة كلها أن تصبر على الرئيس الجديد أربع سنوات وفي أقصى تقدير ثماني سنوات ، ثم يرحل ، وإذا كان هناك من خلل وأخطاء تبينت خلال تجربته يختار الشعب قيادة جديدة تكون أقدر على التصويب أو الإضافة أو معالجة الأخطاء السابقة ، مثلما يحدث في أي بلاد متحضرة ، هذا فضلا عن أن احترام الدستور وثباته يضمن استقرار البلاد وتعزيز السلام الاجتماعي ويجعل عطاء أبنائهم في أقصى قدراتهم ، لأنه متعلق بالوطن نفسه وليس بالحاكم الحالي والعارض .
الآن بدأ "الوسواس الخناس" يرسل إشاراته المبكرة إلى الرئيس بأن هذه المادة غير ملزمة ، وغير عصية على التعديل ، بل إنها عبء على الوطن ، وأنها تحرم الشعب من كفاءة رئيس نادر الوجود ، والرجل الذي يحقق في سنة واحدة ما لم يحققه من سبقوه في عشر سنوات ، والرجل الذي يبني مصر من جديد ويعمل على تثبيت أركان الدولة ويحارب الإرهاب ، وكثير من هذا الكلام قاله شياطين الإنس من قبل للرئيس السادات ـ رحمه الله ـ لكي يعدل دستور 1971 الذي كان يحظر هو الآخر تولي الرئيس لأكثر من مدتين انتخابيتين ، وعندما دخل السادات في المدة الثانية وبدأ العد التنازلي لرحيله ، أغروه بنفس الكلام ، وأنه القائد الذي انتظرته مصر وأنه بطل الحرب والسلام وأنه الذي حقق للبلاد كذا وكذا ، وتم تمهيد القصف الإعلامي عبر المحترفين ، وهم موجودون بوفرة في كل العصور ، ثم انتقلت الترتيبات إلى ترزية القوانين في البرلمان ، ثم تم الاستفتاء وتم تعديل الدستور ليسمح للسادات بالترشح مدى الحياة ، غير أن أقدار الله كانت أسبق فقتل في الحادثة المشهورة وقبل أن يتم مدته الرئاسية الثانية ، لكن الذي استفاد من هذه اللعبة ـ مع الأسف ـ نائبه الذي ورثه ، حسني مبارك ، فبقي في السلطة ثلاثين عاما ، وكان من الممكن أن يكمل هو أو ابنه إلى أربعين أو خمسين سنة ، إلا أن ثورة يناير ـ والتي حماها الجيش ـ أنهت هذا المشروع .
تتكرر التجربة الآن حرفيا ، شبرا بشبر وذراعا بذراع ، قصف إعلامي مبكر يمهد الطريق للفكرة ، ومن ثم سينقل الملف إلى البرلمان ، ثم تتم الدعوة للاستفتاء ، ولن تعدم هذه البلاد المفسرين الذين يتلاعبون بنص القرآن نفسه وليس بنص الدستور فقط ، وتمضي الأمور على هذا النحو ، وها هم يضربون له الأمثلة بدول كبرى عدلت دستورها ، مثل الصين ، وذلك باعتبار أن الصين دولة ديمقراطية عريقة ، ولن يمنعهم الحياء أن يضربوا المثل غدا بكوريا الشمالية !.
هذه لعبة خطيرة جدا ، وتعيد مصر ، الدولة والأجهزة والمؤسسات والشعب ، إلى نقطة الصفر ، ويصبح المستقبل مفتوحا على المجهول والخطر ، لأن أفق التداول السلمي للسلطة انسد ، ولم يعد أحد يعرف ـ عمليا ـ متى ولا كيف يرحل الرئيس الحالي ، وفرضية أن يترشح مواطن ـ أيا كان ـ في مواجهة الرئيس الذي يملك جميع أدوات الدولة وسلطاتها وجبروتها الأمني والإداري والقانوني وتكون له فرصة واقعية للفوز هو خرافة تصلح لقصص الأطفال قبل نومهم ، وبالتالي فمجرد الإعلان عن تعديل الدستور وحذف هذه المادة هو إعلان واضح أنه باق في كرسيه حتى النهاية ، نهايته هو أو نهاية الدولة .
هذا فضلا عن أن دستور 2014 كانت فيه مواد أخرى ، اعتبرت انتقالية ، لضمان توازن السلطة ، وكان المشير عبد الفتاح السيسي وقتها ـ وقبل ترشحه للرئاسة ـ يصر على توثيقها في الدستور ، وهي تلك المتعلقة بتحصين منصب وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة ، فلا يملك رئيس الجمهورية عزله ، فهل هذه المادة سيتم المد لها وتثبيتها ضمن التعديلات ، أم يتم نسيانها ، ومواد أخرى ستكون مثيرة للارتباك ، ودع عنك الانطباع الذي يتولد عن دولتك لدى الدول الأخرى أو الشركات والمستثمرين ، باعتبار أنها "جمهورية موز" أبو القوانين فيها ـ الدستور ـ يتم التلاعب به خلال سنوات قليلة وتعديله بمزاج الحاكم ، فكيف ببقية القوانين ، وهو تسويق لانطباع بغياب الاستقرار والشفافية والوضوح وثبات القواعد المنظمة لعلاقة الدولة مع الأفراد وغياب الضمانات لذلك ، وهو ما يعني أن الاستثمار أو أي علاقة تعاقدية مع هذه الدولة هي مخاطرة غير مضمونة .
لوجه الله ، ثم لوجه هذا الوطن ، أناشد الرئيس عبد الفتاح السيسي قطع ألسنة هذه الشياطين ، والإعلان بحسم عن رفض هذه "الأفكار المسمومة" جملة وتفصيلا ، مصر ليست أقل تحضرا وعراقة من جنوب أفريقيا أو أثيوبيا أو بتسوانا أو ليبيريا ، التي تنهض الآن ديمقراطيا وبتداول سلمي للسلطة يحفظ استقرار البلاد ، وكلها في أفريقيا وليست في أوربا أو أمريكا الشمالية حتى نقول أنها اختلاف ثقافات ، فاعمل على حماية مستقبل وطنك واستقراره ، ولا تفتحه على الخطر والمجهول .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف