وكان أن وصلنا إلى نقطة إلتحام الفرعين ومحل تلاقيهما وهو مكان عظيم يلقي في النفس الهيبة يقال له القناطر الخيرية، وهي جمع قنطرة وتعني المعبر (ويقول له أهل البلاد كوبري) ورغم أننا لم نجد أي سُبلٌ لأهل الخير هناك، إلا أنهم يصرون على أنها "خيرية" ولعل هذا راجع للخير الذي تجلبه للبلاد، لا ندري.
مررنا مع قاربنا (الذي يقال له مركب) حتى وصلنا إلى مجرى النهر ذاته وسرنا ما شاء الله أن نسير حتى رسونا إلى مرسى قرب مدينة كبيرة من أحياء أطراف العاصمة الكبرى للبلاد. وكان أول ما قابلنا في المدينة بالطبع هو مرساها، فإذا هو قديم عتيق كاد صاحبي أن يسقط في النهر حين اراد عبور القطعة الخشبية (ويقال لها سقّالة، وبفتح السين وتشديد القاف) من القارب إلى طرف الشاطئ، وقلنا لصاحبنا أن كان يجب أن يقف في مرسى أفضل وأحسن، فقال بهمهمة لم نقهمها إلا قليلا أن الحمد لله أننا وجدناه!
سرنا خطوات قليلة فإذا الأمر كما هو من حيث اللافتات والأعمدة والصور والنجوم، التي ظننا أنها تركت السماء لتسكن الأرض، ورأينا الشوارع بها مركبات عجيبة يقال لها سيّارات (بفتح السين وتشديد الياء) ثم إنشقت الأرض عن صندوق أسود صغير تنطلق منه أصوات ظنناها الأنكر، غير أنها لم تكن نهيقا فأدركنا أنها إنما هي أدنى منها مرتبة إحتراماً لقول ربنا، وإذا بها تسير على عجلات ثلاث كثعبان يتلوى، ليس لها ضابط أو خط تسير عليه، فسألنا صاحب القارب فقال أنها مركبة يقال لها "توكتوك" وأنها إنتشرت منذ سنوات وتتكاثر كما الأرانب بالشوراع لا يعلم لهذا سببا.
مضى بنا السير وإذا بنا نلاحظ أن الناس تسير واجمة، رثة الملابس، وهؤلاء منهم مِن مَنّ الله عليهم بفضل لم نجد به تأنقاً يناسب ما يلبس، وأنهم جميعا يبدون تائهين لا يلوون على شيء، والأنكى أن بعضهم يسير يكلم نفسه والبعض الأخر يسير بين المركبات، وكانت كبيرة ذات أصوات عظيمة، وهذه "التوكتوك" (والتي لا ندري لها جمعاً!) كأنه يرغب أن يحتضنها أو تحتضنه! وكأن أن راينا لافتات المحال وكأنها مهرجان في عدم الإتساق، وكل خان أو محل منهم تصدح منه أصوات لأناس يتحدثون وموسيقى تصدح لا نفرق بين هذا وذاك. فقلنا هو السوق وهي التجارة!
مشينا ووقفنا أمام بائع يصنع شطائر على عربة له، لها رائحة تُثير النفس وتُسيلُ الُلعاب، فإشتاقت نفوسنا أن نأكل منها فأخبرنا صابر أن هذا الرغيف من الخبز المحشو يقال له (الحواوشي) وأنه إن كنا نرغب في طعام فلا بأس بأن نأكل في حانوت مخصوص ذا سمعة معلومة، لأن الأكل من العربات ربما لا تكون عواقبه محمودة! فسألنا عن السبب، فأمرنا أن نستمع إليه فهو الخبير بيننا لا يفسر لنا فلا نأكل في هذه البلد ما كنا فيها!
سرنا مسافة ركعتين ثم إقتربنا من حانوت للطعام يسميه أهل البلاد (مطعم) فطلب لنا صابر ما شاء واعدا إيانا أنه سيعجبنا إن شاء الله، وقد وفّى وعده، كان الطعام شهياً حتى أن صاحبي كان يزدرده إزدراداً بتلذذ عجيب، حتى أتى على ما أمامه. فلما إنتهينا قمنا نشكر صاحب الحانوت ونقدناه ثمن طعامنا وخرجنا.
مشينا ما شاء الله أن نمشي وبدأنا نرى ملامح المدينة التي نحن فيها... عتيقة قديمة، ذات مبان مهترئة، وسوارع متربه، بها الكثير من الحفر والبرك الصغيرة، وتجتمع القاذورات كل عدة خطوات نمشيها كأنها على موعد! وإذا بالمباني ذاتها ولها مداخل تبدو أشبه بأبواب القبور، أو الأقبية لشدة الظلمة وتهالك درجات أبوابها فقلنا لصاحبنا أن كيف تبدو المدينة على هذا الحال من البؤس، وأين والي البلاد يقوم `لى أمرها ويصلحها، فقال أن الوالي إنما مشغول بأمور أهم لديه من أمور بسيطة كهذه، فعجبنا أي الأمور أهم من أحوال الرعية!؟ فقال: إنما هي أمور ذات شأن خطير وتأثير عظيم وأن الوالي ينيب عنه من يقوم على الأمور البسيطة من حيث حفظ الأمن وتسيير أحوال الناس وضبط اسواقهم والإطمئنان على معايشهم، وضمان صحتهم وسلامة أبدانهم وعقولهم. فعجبنا والله أن لو كانت هذه أمور بسيطة، فما هي هذه الأخطر والأهم شأناً؟ فقال أنه لا يدري، فهو لم يكن واليا قط ولم يعمل مع واحد قط، أو حتى يرى والياً من قبل، فكل ما يراه صورهم في الاوقات الموقوته من كل يوم حين يصيح المنادون بأخبار الوالي (وهم يدورون صباح مساء) وكيف أنه يعمل على الأمور الخطيرة التي من دونها لا تستقيم حياتهم...
إنشقت الأرض عن رجل يرتدي ثيابا لا نعرفها وله حارسين تبدوا على هيئتهم الرثاثة، و,اوجسنا خيفة منهم، إذ كان رئيسهم، أو من يحرسونه، تبدو عليه أمارات في وجهه معلومة تمام العلم في كل من يسمرئ مال الناس، وقال لنا أننا نبدو له كمشردين، رغم فخامة ملابسنا!، وأنه يطلب أن يطلع على ما تسمى "البطاقة"....