الأخبار
كرم جبر
يد الله فوق أيديهم
إنها مصر
بدأت الحرب عندما أمر أسقف مدينة براج الألمانية بحرق كنيسة بروتستانتية، فلجأت البروتستانت إلي الإمبراطور »ماتياس»‬ الذي تجاهل شكواهم، فقرروا أن ينتقموا بأنفسهم ويردوا بالمثل، وبدأوا بما عرف بعقوبة الرمي من النوافذ العالية لمخالفيهم في المذهب والرأي.
هكذا بدأت الحروب الدينية في أوربا في القرن الـ 17 واستمرت ثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت في ألمانيا، فقضت علي ثلث السكان الذكور، وسقط حوالي سبعة ونصف مليون قتيل من إجمالي عدد السكان الذي بلغ عشرين مليوناً، وهبط عدد الذكور إلي النصف، مما اضطر القساوسة الذين أشعلوا الصراع ودقوا طبول الحرب، أن يخالفوا مذهبهم، ويعلنوا قبول تعدد الزوجات، ولكل رجل ما شاء من النساء.
ارتوت الأرض بالدماء، ودمرت مدناً وقري بأكملها، ووصلت البشاعة إلي حد اغتصاب القساوسة في الكنائس، وبقر بطون النساء بالصلبان وحرق الأحياء وإغراقهم في أقفاص حديدية، وبتر الأصابع وقطع الأيدي، وغيرها من فنون القتل البشع، وكان السبب هو الصراع الديني بين الكاثوليك والبروتستانت، والعداء المتأصل بينهما، لخرق الطرفين اتفاق »‬أوسبرج» لتسوية الخلافات، التي بدأت دينية ثم تحولت لحروب سياسية، والملاحظ أن داعش أعادت إنتاج القتل بنفس الطرق.
كان من الطبيعي أن تؤدي الحرب إلي السلام، بعد إنهاك قوي كل المحاربين، وقبولهم التفاوض والتنازل، ونشأت ديمقراطيات جديدة لا يحتكرها القساوسة والرهبان، ولا يمتلكون مفاتيحها، ولا يتركون أسرارها لمن يزعمون أنهم يمتلكون مفاتيح السماء، فعندما تختلط السلطة بالدين، تفسد السلطة، وتنحرف الأديان عن رسالتها السامية، التي تستهدف إسعاد البشر، ونشر المحبة والعدل والتسامح والسلام.
هذه هي »‬مفاتيح» الفوضي الخلاقة التي جاءوا بها إلي الشرق، تحت مسميات كثيرة أهمها »‬الربيع العربي»، فأشعلوا الحروب الدينية في الدول المستهدفة، وخططوا أن تستمر ثلاثين عاماً، حتي تنهار كل الدول، وتقبل شعوبها المقهورة علي السلام الذليل، فيسهل إعادة تقسيم المنطقة علي أساس ديني، تسيطر عليه القوي التي خرجت منتصرة، فأنشأوا داعش وأيقظوا الإخوان والحوثيين والقاعدة وغيرها من التيارات المتطرفة، وأمدوها بالسلاح والمال، وساعدوها في إسقاط القذافي، وإشعال الحروب الدينية في اليمن وسوريا، وكانت مصر الجائزة الكبري، فبدون سقوطها لا يكتب للربيع العربي النجاح، مصر كانت المحطة الرئيسية لقطار الخراب.
لم يدرك الشياطين الذين خططوا للربيع العربي، أن الحروب الدينية في الشرق غيرها في الغرب، ففي الأخيرة تستطيع الشعوب أن تلملم بقاياها فتلتئم الجراح، بما لديها من مخزون ثقافي وحضاري واجتماعي، أما في الشرق فإذا اشتعلت الحروب الدينية، لا تنطفئ جذوتها مهما طال الزمن، ولم تجف دماء الإمام علي »‬كرم الله وجهه» حتي الآن، منذ أن شج السفاح ابن ملجم رأسه وهو يصلي الفجر، وما زالت دماؤه تسيل في العراق وسوريا وغيرها، تحت سيوف الصراع المذهبي بين السنة والشيعة.
لم يكن »‬أبناء مصر الأوفياء» يريدون لبلدهم هذا المصير أبداً، بعد أن ذاقوا ويلات الجماعة الإرهابية، التي قدمت نموذجاً فاشياً دموياً، يفتح الجراح ويستحضر الفتن، ويمزق النسيج الوطني، ويدخل البلاد في دائرة الجحيم العربي، ويجعل المصريين لأول مرة في تاريخهم وجهاً لوجه، وكأنهم أعداء منتقمون وليسوا أبناء وطن واحد، وإذا لم يكن في وسع أحد أن ينزع »‬الإيمان» من قلوب المصريين، فقد تعمدوا قتل »‬الأمان».
مصر في طريقها لبناء الدولة المدنية الحديثة، التي تحتوي تحت مظلة المواطنة كل أبناء الوطن، متساوون في الحقوق والواجبات، ولا يلتفون إلا تحت علم مصر ولا يهتفون إلا بنشيدها، وهذا هو السياج الآمن الذي يحمي البلاد ويصون المصريين، ويدرأ المخاطر، ويمنع عودة أمثال تلك الجماعة الشاردة، التي أطبقت أظافرها وأنيابها في رقبة البلاد والعباد، ولكن كانت يد الله فوق أيديهم.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف