القضية بسيطة: ماذا يمكن أن نفعل مع تراثنا وبتراثنا؟ هل التراث الذى يصلنا من الأجيال السابقة يصبح ملكية لنا؟ أى تراث تمتلكه الإنسانية. بدأ من الأجيال التى أبدعته والأجيال التى تناقلته وحافظت عليه حتى وصلنا. أبسط القضايا أكثرها تعقيداً سؤال التراث: هل من حقنا أن نضيف إليه؟ أن نحذف منه؟ أم أن نحافظ عليه كما وصلنا؟.
لا قداسة إلا للنص الدينى المُنَزَّل من لدن الله سبحانه وتعالي. وما نُسِب للرسل من أقوال. خضعت للبحث والدراسة ونُقيت من كل ما أضيف إليها. لكن الموقف من التراث مسألة معنوية. يُلخِّصها سؤال: ما هى حدود تعاملنا مع موروثنا؟ وما هى حقوقنا عليه؟ وواجبات النص علينا حتى نحافظ على الذاكرة الإنسانية ولا نعتدى على مكوناتها.
قبل ثلاثة أسابيع كتبت تحت عنوان: شهرزاد ما زالت تحكي. عن طبعة جديدة صدرت عن الدار المصرية اللبنانية من ألف ليلة وليلة. وانتقدت قيام الدار بحذف جمل وحكايات من النص لأسباب أخلاقية. لا أتهم الدار بأنها ضحكت على القارئ. لأنها فى طبعتها كان هناك اعتراف بأن النسخة المنشورة مهذبة.
مقدمة الليالى ذكرت: أن التهذيب كان حذف الألفاظ المخلة بالحياء. واعترفوا أنهم وضعوا مكان المحذوف نقطاً ولم يتدخلوا فى الصياغة، بل تركوها كما هي. وبعد حذف بعض الحكايات، أى حذف بعض الليالى تم الإبقاء على ترتيب الليالى الأخرى وترقيمها كما هى دون اعتراف صريح بما تم حذفه. بل كتب المحققون أن من يريد أن يرجع إلى الأصل وهو الطبعة التى قابلها وصححها الشيخ محمد قُطة العدوي. فيمكن أن تكون موجودة على الإنترنت.
إتصل بى محمد رشاد، ناشر الليالي. وذكَّرنى وإن كنت ما زلت أذكر ـ بأنه سبق أن قُدِّم للقضاء فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى بتهمة نشر نص خادش للحياء. كان: ألف ليلة وليلة. وتم احتجازه لحين عرضه على النيابة ثم أُفرج عنه. وكان يمكن أن يتحول الأمر لحكم بالسجن لا يعرف أحد مداه. نسخة الليالى التى طبعها الدكتور أحمد مجاهد فى الثقافة الجماهيرية ضمن سلسلة الذخائر. وكان مسئولاً عن السلسلة المرحوم صديق العمر جمال الغيطانى قد قُدِّم بلاغ ضدها من عشرة محامين يعملون فى مكتب واحد. ويشكلون مجموعة من المحامين ضد الطبعة بنفس التهمة. مجدداً ولن أمل من ترديد السؤال: هل من حقنا الحذف؟ ومن الذى يحذف؟ ومن هو الذى يمكن أن يبقى على ما يمكن الإبقاء عليه؟ وإن تم إقرار مبدأ الحذف. ألا يعنى هذا اعترافا صريحا وواضحاً بأن الأجيال السابقة التى نشرت النص الكامل كانوا أكثر شجاعة منا؟ وكانت قدرتهم على التعامل مع المحرمات أكثر نضجاً من أجيالنا؟.
النسخة الأساسية من ألف ليلة وليلة التى راجعها الشيخ محمد قُطة العدوي. وكان أحد شيوخ الأزهر الشريف. وكان شاعراً وأديباً. ولد 1795 وتوفى 1862. منشورة فى أواخر القرن التاسع عشر. فما الذى تغير؟ نحن أم النص أم الذائقة العامة فى المجتمع؟ أم الناس؟ أم القوى المحافظة التى تريد أن تطبع كل شيء بطابعها؟ وتُسيِّر الحياة بالطريقة التى ترى أنها الصواب. مع أن الصواب والخطأ مسائل تقديرية يمكن أن نتفق بشأنها أو أن نختلف حولها.
هذه المسألة أدت إلى ازدواج المعايير فى النشر. فتوجد مراكز تنشر التراث الجنسى العربى بتوسع شديد. وتوزعه بشكل غير رسمى فى إحدى العواصم العربية. فى مكتبتى أربعة مجلدات تقدم هذا التراث. مطبوعة فى ألمانيا. وموزعة عن طريق بيروت. وفيها تراثنا الجنسى كما هو - لا أقصد الليالى - ولكن أقصد كتباً أستسمح القارئ ألا أذكر أسماءها حتى لا أُتهم بأننى أروج لكتابات لا يصح الترويج لها. وحتى لا ينشغل القارئ فى البحث عنها. وكل ممنوع مرغوب. من يتعامل مع الكتاب بعيداً عن المكتبات. خصوصاً من يبيعون الكتب على الأرصفة. أو أسواق الكتب القديمة. كان لدينا سور الأزبكية. ثم أصبح فى خبر كان. ولدينا الآن سور السيدة زينب. وفى هذه الأماكن تُباع كمية ضخمة من الكتب الممنوعة. بل وأصبح منع الكتاب مبرراً للإقبال عليه واقتنائه. ودفع مبالغ ضخمة من أجل شرائه. بل ربما أصبح مثل هذا الكتاب الممنوع يلقى من الرواج والإقبال أكثر ألف مرة من الكتاب المسموح به والمُتاح. كانت لدينا فى مصر رقابة على الكتب. ألغيت بعد ثورة يناير 1977، وأصبح الكتاب ينشر بمجرد طباعته. ومن يعترض على ما فيه من حقه اللجوء إلى القضاء لكى تصبح المحكمة الفيصل فى نشر الكتاب من عدمه. وأنا لا أكتب الآن مطالباً بعودة الرقابة. فالدنيا تتجه إلى إلغاء الرقابة. خصوصاً بعد وجود الفضاء الافتراضى الذى تعدى على الرقابات والحدود بين الدول والحضارات والجنسيات واللغات. وجعل من العالم قرية صغيرة. لا أقصر التراث على الليالى القديمة. كتابات قريبة تُعد تراثاً. الإسلام وأصول الحكم للشيخ على عبد الرازق. وفى الشعر الجاهلى لطه حسين. وكلاهما صدر وصودر فى منتصف عشرينيات القرن الماضي. وظل الكتابان ممنوعين حتى ما بعد إلغاء الرقابة وأصبح وجودهما فى الأسواق أمرا واقعا. أكثر منه موقفا قانونيا. أولاد حارتنا لنجيب محفوظ. المنشورة فى ستينيات القرن الماضي. التى طُبِعت فى بيروت بعد نشرها مسلسلة فى الأهرام بسبب موقف الأزهر الشريف منها. كل هذا يمكن اعتباره تراثاً والسؤال هو: ما هو الموقف الثقافى والفكرى والحضارى منه؟. لا يدخل فى سياق ما أكتب عنه معالجات التراث أن تكتب للأطفال والصبية. لا بد من صياغة جديدة لها تُراعى سن من سيتعامل مع النص. وتضع فى الاعتبار ظروفه وطريقة تلقيه للنص. وأيضاً ما يمكن أن يُدرَّس فى مدارسنا من التُراث. علماً بأن مدارسنا ـ فى حدود علمى وإمكانات معرفتى لم تفكر فى أن تعد نصوصاً من الليالى لتدريسها على الطلاب. مع أن الليالى باعتراف العالم أكبر مدرسة فى التاريخ الإنسانى للتدريب على الخيال. والخيال ليس هروباً من الواقع. لكنه إعادة خلق للواقع على أسس أفضل وأجمل من الواقع.