الأهرام
سعاد طنطاوى
ما تبقى من اعمارنا
جمعنا لقاء عائلى على شرف إحدى القريبات التى عادت مؤخرا من إحدى الدول العربية التى تئن من الحروب منذ سنوات ، وفى نيتها الاستقرار بأرض الوطن بعد سنوات الغربة التى حصدت عمرها وخرجت منها صفر اليدين إلا من زوج و عشرة ابناء يعانون التشرد فى البلاد المجاورة جراء الحرب التى دمرت بيوتهم وشردت اولادهم وشتت شملهم .
والتف حولها سيدات العائلة ورجالها للاستفسار عن أحوالها بنية الاطمئنان عليها وتوسع الحوار بين القريبات الى أن وصل الى مرحلة السن وحينها دخلوا فى مبارزة بينهن عل إحدهن تفوز بسن أصغر من الباقيات وكان نوعا من المزاح ، وحينها تحول الحوار ودخل فى مسار الجد عندما قالت أحدهن : ياجماعة لابد أن نكبر فى السن حتى يكبر أبنائنا ، أم تتمنون أن يكبر أولادكم وانتم على سن صغيرة ، فكيف بالله عليكم يحدث ذلك ؟! ودخلت فى الحوار أكبرهن سنا وأعقلهن فقالت أن أعمارنا أمر واقع وهو حقيقة فى حياتنا وللاسف كثيرات منكن تهرب من حقيقة سنها عند السؤال عنه وتعده محرجا لها باعتبارها كبرت فى السن واصبحت عجوزا .وقاطعتها واحدة من الحضور قائلة : فى زحمة الحياة وإنشغالى بتعليم ابنائى ولهثى وراء جمع المال لتوفير حياة كريمة لهم وسد متطلباتهم ، فجأة وجدت نفسى فى الاربعين ثم الخامسة والاربعين وقربت على الخمسين ، وبدأت أشعر بالخوف قبل أن أصل الى الستين ، ولم أنتبه الى ذلك الا عندما بدأت اسمع الناس ينادونى يا حاجة " وعند ذهابى للتسوق يبادرون بأعطائى كرسى لاستريح عليه وأجد بعض الامهات الشابات الصغيرات فى السن تنهر طفلها بقول " أقوم وأقعد تيته " حينئذ فقط تذكرت عمرى الذى تسرب منى دون أن أشعر ، وكانت لحظة قاسية شديدة المرارة ومروعة . وسكتت حزينة يائسة فبادرتها تلك الكبيرة العاقلة فى الجلسة كلها وكانت ذات علم وثقافة وأدب وأخلاق عالية ،ووجهت الكلام للجميع من خلال نظراتها التى تفرقت على الحضور قائلة : لكل مرحلة من العمر متطلباتها ، ولنا فى رسول الله صلى الله عليه وسلم اسوة حسنة ، فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان يعمل بالتجارة وهو شاب فى الخامسة والعشرين و نزل عليه الوحى وهو فى الاربعين ، وحارب الكفار فى الخمسين من العمر حتى أخره ، والسيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها زوجة نبينا الكريم صلي الله عليه وسلم كانت في عز قوتها وهي في سن الاربعين حين أنجبت أولادها وبناتها في هذه المرحله من العمر ، وتنهدت الكبيرة قائلة : العمر بالنسبة لنا هو عداد للايام التى نقضيها فى هذه الدنيا ، اما العمر الحقيقى فهو أن يبقى قلبك شاب وروحك متقدة ، وبيدك وحدك الشعور بالرضا والسعادة ، ومن يصل لهذا العمر فهو فى بداية طور جديد من أطوار الشباب فأبدأ بحفظ القرآن لأنك في قمة شبابك واجتماع قدراتك، وأقم صلاتك الفروض منها والسنن وإيتاء زكاتك وحافظ على صيامك و اجعل لك خلوة في جوف الليل بربك وضع لك بصمة في دروب الخير ليبقى اسمك .

واترك لك أثرا ليخلد ذكرك ، فلا شىء يستحق منك الحزن والندم سوى تقصيرك فى حق الله . أفرح إنك بقيت على قيد الحياة يومًا واحدًا ؛ ففي هذااليوم تزرع حسنات، وتؤدي صلوات، وتقدم صدقات، فأنت الرابح الفائز فاغتنم كل دقيقة فإنها لن تعود، فلا تهدر عمرك ، فبين الدرجة والدرجة في الجنة قراءة آية، او تسبيحة أو تحميدة أوتهليلة ، واعلم ان المتاجرة مع الله لا حدود لها فالله الله في حفظ ماتبقى من أعمارنا ف " خَيْرُ النَّاسِ مَن طالَ عمُرُه وَحَسُنَ عملُه "
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف