مراد وهبة
ماذا فعل الفلاسفة بعقل الانسان؟
وَلدت حواء قايين ثم ولدت هابيل، وكلم قايين أخاه هابيل، وعندما كانا فى الحقل قام قايين على هابيل أخيه وقتله، فقال الرب لقايين: أين هابيل أخوك؟. هذه الرواية منقولة من سفر التكوين، وعلى غرارها يمكن أن نتساءل: أيها الفلاسفة ماذا فعلتم بعقل أخيكم الانسان؟
والفارق بين السؤالين أن كلا من قايين وهابيل كانا منشغلين بزراعة الأرض، أما الفلاسفة فقد انشغلوا بزراعة الحقيقة فى عقل الانسان فكانت البداية هذا السؤال: ما الحقيقة؟ وجاء الجواب من القرن الرابع قبل الميلاد على يد فيلسوف يونانى اسمه بروتاغوراس، نشر كتاباً اسمه «الحقيقة» نفى فيه الحقيقة بحجة أن احساس إنسان بشئ يأتى مخالفاً لإحساس إنسان آخر، وجاء بعده سقراط وقيل عنه إنه مثل ذبابة الخيل مزعج ومقلق فيما كان يثيره من مسائل لا ينتهى منها إلى أية حقيقة، ثم جاء فيلسوف آخر اسمه بيرون من القرن الثالث قبل الميلاد ودفع مسار سقراط إلى منتهاه فإذا به يتشكك فى كل شئ وبذلك وضع أساساً لمذهب فلسفى اسمه «مذهب الشك»، ثم رتب على هذا المذهب نتيجة مهمة وهى أن يظل العقل مفتوحاً من غير إغلاق ومن غير انحياز، أى من غير تعصب وبذلك تتحقق سكينة النفس.
ومع ذلك تساءل الفلاسفة عما إذا كان فى الامكان تحقيق هذه السكينة فى مسار آخر غير مسار الشك، وكان فى مقدمة هؤلاء أوغسطين (354-430م). كان مؤمناً ومع ذلك واجه أسئلة بلا جواب، مثل: ماذا يريد منه الله أن يفعله؟ وكيف يلزم أن تكون الحياة؟ وكان يتصور أن الخطأ فى الاجابة قد يقفز به إلى جهنم، ولكن إذا كان ذلك كذلك فلماذا يسمح الله بالخطأ أو بالشر؟ هل يريد منا أن نتعذب؟ وللخروج من هذه الاشكاليات ابتدع أوغسطين مفهوم حرية الاختيار، ومن ثم يكون الخطأ من مستلزمات الاختيار، ومع ذلك ظلت الاشكاليات قائمة بلا حل لأنه إذا كان الله يعرف مقدماً اختياراتنا فلماذا لا يمنعنا من أدائها إذا كانت خاطئة أو شريرة؟ والسؤال اذن: هل ثمة مسار آخر؟
جاء الجواب بالايجاب من فيلسوف انجليزى اسمه توماس هوبز من القرن السابع عشر إذ ارتأى أن مسئولية الانسان هى من شأن الدولة وليس من شأن الانسان نفسه لأن الانسان بطبيعته أنانى بل هو ذئب لأخيه الانسان، يقتُله قبل أن يقتَله، ومن هنا اخترع الانسان السلطان القاهر الذى من مسئوليته منع هذا القتل، ولكن ماذا يحدث لو ضعف هذا السلطان؟ نعود مرة أخرى إلى حالة الشك التى اصطنعها بروتاغوراس، ورددها الفيلسوف الفرنسى ديكارت عندما تخيل أن ثمة شيطاناً خبيثاً قابعاً داخل الانسان حريصاً على تضليله.
والسؤال اذن: ماذا يعنى هذا التضليل؟. إنه يعنى أن لدى هذا الشيطان الخبيث فكرة يريد أن يخدع بها الانسان، ومعنى ذلك أن ثمة فكرة تدور فى عقل الانسان، ومن هنا يحق لديكارت القول بأن العقل يفكر. وإذا كان العقل يفكر فهو اذن موجود، وهو يعنى فى المقام الأول زوال الشك، ولكن هل معنى زوال الشك زوال الشيطان الخبيث؟ سؤال يُدخل ديكارت فى زنقة.
والسؤال اذن: مَنْ يخرج ديكارت من هذه الزنقة؟
لقد قام بهذه العملية فيلسوف فرنسى اسمه بسكال عندما قال عبارته المشهورة «للقلب حجج يجهلها العقل»، ورتب عليها عبارة أخرى وهى أننا نعرف الله بالقلب دون العقل، إلا أن هذه العبارة أدخلت بسكال فى زنقة وإن كانت مغايرة لزنقة ديكارت، إذ هى فى هذه المرة تُحدث إقصاء للعقل، وبالتالى تُحدث إقصاء للفلسفة، لأن الفلسفة أساسها إعمال العقل منذ أن وُلدت، وقد تصور بسكال أن فى إمكانه إخراج نفسه من هذا المأزق عندما استعان بالرهان بديلاً عن العقل، ومن ثم تصبح نظرياته بعد ذلك مجرد مغامرات. مثال على إحدى هذه المغامرات يبدأ بسؤال: ماذا يحدث إذا راهنا على صحة القضية القائلة بخلود الانسان؟ إذا خلد الانسان ربح الرهان وإذا لم يخلد فإنه لن يخسر شيئاً، ولكن الجدير بالتنويه هنا أن مغامرات بسكال لم تتحول إلى تيار فلسفى، إذ جاء الفيلسوف الألمانى العظيم كانط فى القرن الثامن عشر مصمماً على إراحة العقل الانسانى من هذه الزنقات فارتأى أن هذا العقل يشتهى قنص المطلق، إلا أن هذا القنص لن يتحقق لأن العقل نسبى فى كل ما يقتنصه وبالتالى فإنه إذا توهم أنه اقتنص المطلق فإن هذا المطلق يتحول إلى نسبى بالضرورة، ومع ذلك فقد أصدر الملك أمراً إلى كانط بالامتناع عن الخوض فى مسائل تخص الدين. والمفاجأة هنا أنه فى القرن الحادى والعشرين وُلدت ميليشيات أصولية مسلحة تزعم أنها مالكة للحقيقة المطلقة وترهب بالقتل مَنْ يقاومها، والسؤال بعد ذلك: هل المخرج يكمن فى إقصاء الحقيقة عن العقل؟