وفاء محمود
لو كان الحقد بشرا.. لقبلته!
كان الرئيس الراحل (أنور السادات)، زرقاء اليمامة العرب، يتكلم بمرارة عن «الحقد» فى خطبه، وكنت أظن حينها أنه يتكلم كلاما غير سياسي، ويرجع المشاكل لخصلة إنسانية طبيعية، تحتاج لتربية أسرية، وربما تعليمية، بينما الحق إنها طبيعة إنسانية، تدخل فى صميم المشاكل السياسية والاقتصادية والثقافية التى على المسئول الأول فى الدولة الاهتمام بها، حتى يصل لدولة الأمن والأمان الاجتماعي، التى كان يطمح لها (السادات)، فوضع يده على الداء، ولكن من الواضح أن الدواء لم يكن فاعلا بالدرجة، التى تلجمه لحدوده الدنيا، وما ظهور الاضطرابات فى عهده ومن بعده، حتى هوجة يناير، إلا ثمرة مسمومة للحقد الاجتماعي.
أعتقد إنه من الطبيعى أن تنتشر ظاهرة الحقد فى مجتمعات تتفاوت فيها الفرص، أو تقل لدرجة أن يجد الغالبية عوائق لتحقيق ذواتهم، هذا الفشل فى التنافس الاجتماعي، لا تتحمله النفس فيخفف من الإحباط والشعور بالدونية، ويلقى مسئولية الإخفاق والفشل على الآخرين، من قرناء أو مسئولين، فماذا أمام الإنسان عندما يحاصره القلق عند معاناته لفرض شخصيته فى المجتمع، ولا يجد متنفسا من وطأة الاكتئاب إلا بالحقد؟! لطرد المشاعر السلبية خارج نفسه، ويسقطها لا إراديا على الآخرين فى انفجار نفسي، يظهر فى سلوك عدواني، أو الاستسلام السلبى وتخزين هواجس الحقد والكراهية!
علاج الحقد الإنسانى لا يتحقق بإدانته، فهو مدان حتى من قبل الحاقدين أنفسهم، لكن بجهود علمية جادة تجمع بين العلوم المختلفة، لتتكامل لتضع البرامج الاجتماعية لمحاصرة هذه الظاهرة، والوصول إلى مجتمع متوازن، فذلك السبيل الوحيد للأمن والأمان الذى اجتهد الرئيس (السادات) وغيره فى تحقيقه، وتحطمت جهودهم على صخور الحقد المتجذرة فى النفس البشرية.. وأعتقد أن الأفكار الاشتراكية لم تجتهد إلا لمحاصرة الحقد الطبقى بالعدالة الاجتماعية، وتطوير الرأسمالية لنفسها, كذلك يأتى فى اتجاه تحقيق تكافل اجتماعي، يضمن للفقراء حياة كريمة، فنجد فى «ألمانيا» اهتماما بمحدودى الدخل من رعاية صحية وإعفاءات ضريبية وتسهيلات فى السكن والعمل، تفوق ما كان يقدمه زعيمنا الخالد (جمال عبد الناصر) رغم أنها دولة رأسمالية تعتمد الاقتصاد الحر!!
التداخل ما بين النظم الاشتراكية والرأسمالية، أصبح جليا، فالاشتراكية تتجه نحو الرأسمالية، والعكس بالعكس، فأصبح هدف الاقتصاد ليس تحقيق النمو المرتفع فقط، ولكن أيضا استخدام فروع العلم الأخرى كعلم النفس والاجتماع للوصول للطريقة المثلى لإدارة اقتصاد السوق، لتحقيق السعادة فيرى (ريتشارد لايارد) عالم الاقتصاد بإنجلترا، مؤسس مركز الأداء الاقتصادي، أن خلق الثروة ليس الهدف النهائى للتقدم، وينتقد المجتمع لتطرفه فى الفردية، واعتماده تماما على النظرية الداروينية فى البقاء للأصلح، مما يخلق مناخا حاقدا، به قدر من المزاحمة، يحول دون وجود أهداف مشتركة وقيم جماعية، ويعتبر أن ذلك سبب تعاسة الناس!
لم تعد الأيديولوجيات الاقتصادية مجدية، فأصبح الاقتصاد يهدف لسعادة الناس والقضاء على الحقد الاجتماعي، بإتاحة الفرص للجميع، كلُ لتحقيق ذاته، وهو ما جعل الصين قلعة الشيوعية تستعين بأكثر الاقتصاديين الليبراليين تطرفا (ميلتون فريدمان)، الذى أشار عليها بأن تتحد الدولة مع الأغنياء والشركات الكبري، لحل المشاكل الاجتماعية بالاقتصاد الحر، وتخفيف قبضتها ودفع سياستها نحو الانفتاح الاقتصادي، وتحقق المنافع المتبادلة والسعادة للمجتمع دون حقد على الأغنياء، الذين يرتبط الرخاء الاقتصادى باستثماراتهم!
أصبح الهدف الأسمى لكل البرامج السياسية والاقتصادية هو تحقيق السعادة لأكبر عدد من الناس، ومحاصرة الحقد ليس بإدانته ودعوة الناس للتخلى عن طبيعتها، التى يرى (لايارد) إنها حقودة بطبعها، فهى تحقد على الأعلى منها، ولا تفرح بالعلاوة إلا لنفسها فقط، إلا أن السياسات الرشيدة، والبرامج العملية التى تضمن حسن الإدارة والشفافية والإبداع، هى السبيل العلمى لمحاصرة الحقد، بتوفير فرص العمل وتحقيق الذات، ويقتصر دور الدولة على إعداد الكفاءات العاملة القادرة على المنافسة فى سوق العمل، وحماية الحرية، حتى لا تأكل حرية الذئاب حرية الخراف، كما يقول (أشعيا برلين)، المنظر الليبرالى الشهير الذى نبه إلى تضارب القيم ونسبيتها.
عندما قال سيدنا محمد (ص): «من أصبح منكم آمنا فى سربه، معافى فى جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها»، بالطبع ذلك عين السعادة، ولكن الأمن لا يتوافر إلا بالجيش والشرطة، والقوت لا يأتى إلا ببرامج اقتصادية صعبة ومدروسة، يعيش الغنى والفقير فيها بلا أحقاد، فكلاهما يعيش بالاعتماد المتبادل، وحتى وإن تحقق ذلك، قد لا يشفى غليل الحقد الذى لو كان بشرا لقبلته، عزاء على مرضه العضال ولا دواء له، فالرضا منحة سعادة من السماء!