جمال سلطان
دفاع عن المهنة .. وليس عن المصري اليوم ومصر العربية
عندما قرأت "مانشيت" المصري اليوم صاحب الجدل الواسع عن مظاهر تعلقت بالانتخابات الرئاسية الجديدة استغربت للضجة ، فالمانشيت بأي معيار مهني هو عنوان عادي ، صحيح أنه يحمل إشارة ضمنية لسلبية المظاهر التي أشار إليها ، ولكن العنوان ليس فيه إهانة لأحد ولا تحريض ضد أحد ولا خروجا على القانون ، فالمانشيت يقول : (الدولة تحشد الناخبين في آخر أيام الانتخابات) ، وفي العنوان الشارح تحته : (الوطنية تلوح بالغرامة .. مسئولون يعدون بمكافآت مالية وهدايا أمام اللجان) ثم سطر أخير نشر فيه التصريح المخزي لأحد مسئولي "الدولة" فيه هجاء مهين لقطاع من المصريين لعدم ذهابهم للانتخابات ، وهذا الكلام الذي نشرته المصري اليوم تكرر ألف مرة في اليوم الثالث للانتخابات تحديدا ، سواء عبر الصحف العالمية من خلال مراسليها أو نقلا عن شهود عيان ، أو من خلال ما أعلنته الصحف القومية والأخرى المحسوبة على السلطة ، والتي نقلت بالصوت والصورة تصريحات رسمية من مسئولين رفيعي المستوى في الدولة يحشدون الناس للتصويت بوعود مالية ، مثل رصد مائة ألف جنيه للكنيسة الأعلى تصويتا في الانتخابات ، أو رصد مبلغ آخر ـ أعتقد 350 ألف جنيه للقرية التي تكون أعلى تصويتا ، فضلا عن ما صرحت به محافظ البحيرة من إعطاء أولوية للقرى الأعلى تصويتا في توصيل المرافق العامة لها ، مثل مياه الشرب وشبكة الصرف الصحي ، هذا بخلاف الفيديوهات التي تم تداولها على نطاق واسع عبر شبكات التواصل الاجتماعي ، بالصوت والصورة ، لقيادات تعليمية تجتمع بمرؤسيها لتبلغهم توجيهات واضحة بالمشاركة في التصويت وإلا .. .
فإذا كان كل ذلك لا يمثل حشدا للناخبين من قبل الدولة ورموزها ومسئوليها فإن اللغة تفقد معناها ، وأما الإشارة إلى تلويح الهيئة الوطنية للانتخابات بالغرامة ، فهذا ما نشرته مواقع صحف قومية وصحف موالية للنظام وتكرر مرارا دون أن تنفيه الوطنية للانتخابات ، فبديهي أن يتعامل معه الإعلام على أنه معلومة صحيحة ، لأنه بوسع الوطنية للإعلام أن تنفيه في الحال ، كما فعلت مع أخبار أخرى شاعت ، لمنع حالة الارتباك التي سادت بين الناس ، حيث خافت جموع كثيرة بالفعل من هذا التهديد وذهبت إلى اللجان على أساسه ، ولو أن الوطنية للانتخابات أعلنت للكافة وبحسم وقتها أن هذا الكلام لم يصدر عنها لشكرناها ألف مرة ، أما النفي فيما بعد فلم يعد له قيمة ، لأن "الشائعة" حققت المقصود منها وأثرت على الانتخابات بالفعل ، كما كان أولى بالمجلس الأعلى للإعلام ، إن كان يرى أنها شائعة أن يصدر بيانا إعلاميا صريحا وعاجلا ينفي فيه ما نسب للهيئة ، ويحذر الصحف القومية والخاصة والحزبية من نشر مثل هذا الكلام ، كما أن الشيء بالشيء يذكر ، فإن هذه الصحف القومية والموالية للسلطة ، هي أولى ألف مرة بالتحقيق والعقوبة من المجلس الأعلى للإعلام ، لأنها منبع هذه "الشائعة" ، فلماذا تجاهلها الأستاذ مكرم وجماعته ، فعدم التحقيق معها يجعل الموضوع برمته عقابا سياسيا لا مهنيا .
كذلك من المستغرب جدا إدانة موقع مصر العربية وإلزامه بأن يدفع خمسين ألف جنيه غرامة لأنه ترجم مقالا لواحدة من أكبر الصحف العالمية ، نيويورك تايمز ، تصف فيه من خلال من أسمتهم شهود عيان ومراسلين بعض المظاهر السلبية في الانتخابات وتزعم أنه في بعض المناطق الشعبية كان يتم الدفع للمواطن خمسين جنيها من أجل التصويت ، أي ما يعادل ثلاثة دولارات حسب وصف الصحيفة ، وهذه النوعية من الأخبار المترجمة هي من ألف باء المهنة ، خاصة وأن الموقع ينشر تقارير أخرى تمثل وجهة نظر أخرى ، وما نشرته الصحيفة الأمريكية ربما كان أخف مما نشرته صحف أخرى بكلام جارح جدا ، فلا يتحدث أحد هنا عن المهنية ، فما فعله الموقع مهني جدا ومألوف تماما في الصحافة الحديثة ، ونقابة الصحفيين تقبل في عضويتها دائما من يحمل وصف "مترجم صحفي" وهو أحد الأقسام المهمة في أي صحيفة كبيرة وأحيانا يرفق بقسم "الخارجي" ، فالغضب من مصر العربية هو غضب سياسي وليس مهني ، حتى يكون الكلام واضحا ومحددا .
والطريف أن المجلس الأعلى للإعلام قرر معاقبة موقع هو بالأساس محجوب في مصر منذ قرابة عام بقرارات غامضة وغير معروف مصدرها حتى الآن ، ولجأ الموقع إلى الأعلى للإعلام وإلى نقابة الصحفيين لمعالجة الأمر فلم يجد سوى طبطات على الكتف ، ولا أحد يعرف في أي جهة من هو صاحب قرار حجب الموقع ، والمهم أنهم حجبوه ثم عاقبوه ماليا لأنه نشر مادة لم ترق لهم ، يعني كما يقول العامة في بلادنا "موت وخراب ديار" .
والحقيقة أن فرض الغرامات بهذا الشكل أمر غريب وطارئ على الحياة الصحفية ، ولا أذكر أن المجلس الأعلى للصحافة الذي ورثه الأعلى للإعلام أقدم على شيء من ذلك من قبل ، لا في عهد مبارك ولا من قبله ، كما أن القرارات صدرت بدون تحقيق مع الأشخاص المعنيين بالمسألة "المهنية" مثل رئيس التحرير أو محرري الخبر ، فالقرار متعلق بالمهنية ، ولكنهم فضلوا الاستماع إلى مسئول إداري فقط في المصري اليوم ، ولم يستمعوا إلى أحد في مصر العربية ، فلا أعرف منطقا لصدور قرارات عقابية بدون تحقيقات مهنية جادة وحقيقية وشاملة ، ولا أعرف ما هو النص القانوني الذي اعتمد عليه المجلس الأعلى لفرض تلك الغرامة ، مائة وخمسون ألفا للمصري اليوم وخمسون ألف لمصر العربية ، هل المسألة جزافية ، هل هناك نص ـ مثل قانون المرور مثلا ـ يحدد الغرامة على المخالفة في حدها الأدنى وحدها الأعلى ، أم أن المسألة حسب الجو العام ، وهل القرار بات ونهائي مثل أحكام محكمة النقض مثلا أم أنه قابل للاستئناف وإعادة النظر ، وأعتقد أنه يحق للصحيفتين اللجوء إلى القضاء الإداري لإبطال هذه الغرامة ، ثمن إن الأعلى للإعلام حقق وأدان وقرر العقوبة ، ثم أحال الصحيفة لنقابة الصحفيين للتحقيق أيضا تمهيدا لعقوبة أخرى ، ولا أعرف ما إذا كانت هناك بلاغات في مكتب النائب العام للتحقيق أيضا أم لا ، وفي الإجمال نحن أمام حالة غريبة جدا في الصحافة .
كنا ـ وما زلنا ـ نتمنى أن يكون موقف الأعلى للإعلام هو التضامن مع الصحافة والصحفيين الذين يعيشون كابوسا في أي جهد مهني حر حاليا ، كنا نتمنى أن يحمي ظهورنا لا أن يتفرغ تقريبا لزجرنا وعقابنا ، كنا نتمنى أن يخوض المعركة المشروعة دفاعا عن حقوق مواقع الصحف المحجوبة دون أن نعرف ـ طوال عام تقريبا ـ من هي الجهة التي حجبتها ، ورغم المذكرات العديدة التي قدمناها للمجلس لم يتحرك شيء مما أضر بمئات من الصحفيين العاملين في تلك المواقع الإخبارية ، فإذا كان للمجلس دور رقابي ، فإنه جزء من دوره الشامل في حماية المهنة والعاملين فيها ودعمهم بكل صور الدعم .