جمال سلطان
في وداع صحيفة الحياة اللندنية .. تاريخ وذكريات
في السبعينات من القرن الماضي ، هاجر عدد غير قليل من الصحفيين العرب ، وخاصة من لبنان ومصر ، إلى العاصمة البريطانية لندن ، لأسباب مختلفة ، بعضها يعود إلى البحث عن الرزق ، وبعضها يعود للهرب من ملاحقة نظم قمعية في سوريا والعراق ومصر وغيرها ، وبعضها التماسا لأجواء مهنية أفضل ، وكثافة الوجود العربي في لندن يجعل للمدينة دفئا يقلل إحساسك بالغربة ، لكن بعضا من هؤلاء الصحفيين امتهن حرفة "الابتزاز" خاصة لحكام الخليج ، من أجل الحصول على مال أكثر وأسهل وأسرع ، وكان الخليج آنذاك يعيش عنفوان طفرة النفط وأسعاره الخرافية ، فانتشرت في تلك الأيام ـ وامتدت حتى الثمانينات ـ كتب رخيصة تتحدث عن أسرار الأميرة فلانة وفضائح الأمير علان ، وكانت كثيرة ، ولا تدخل مكتبة من المكتبات التي يغشاها العرب عادة في أماكن تجمعهم مثل شارع إجوار رود الشهير إلا وتجد هذه الكتب في الصدارة ، لأنه يبدو أن الإقبال عليها كان ملحوظا ، كما كانت هناك مقالات تنشر خصيصا للابتزاز ، وكان الخليج يدفع اتقاء للفحش والتشهير ، كما كانت هناك ظاهرة غريبة ـ كانت في باريس أكثر ـ تسمى "مجلات العدد الواحد" ، حيث يصدر أحدهم مجلة جديدة ، وكان ذلك سهل جدا وليس معقدا كما هو الحال في بلاد العرب ، وفي عدد المجلة الأول والوحيد يتحدث عن أمير بعينه أو مسئول عربي كبير ، ثم يتوعد بأنه في العدد الثاني سيفجر المفاجآت عن فضائحه ، ولكن المجلة تتوقف بعد ذلك وتختفي ولا يصدر العدد الثاني ، إذ تجري خلال الأسبوع مفاوضات ومساومات تنتهي بترضية صاحب المجلة ومن ثم لا حاجة له بإصدار عدد ثاني ، فقد حصل على المطلوب !.
كان ظهور صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية التي انطلقت في أواخر السبعينات واستوت على سوقها في بداية الثمانينات علامة على أفكار جديدة لدول الخليج لوقف صحافة الابتزاز بتوفير صحافة جادة ومهنية وتستقطب أبرز رموز الصحافة العربية وقتها ، وبعد الشرق الأوسط قام الأمير خالد بن سلطان بشراء صحيفة "الحياة" اللبنانية من آل مروة ، وأسس لها مكتبا فاخرا في أرقى أحياء لندن ، واختار طاقما لبنانيا لإدارتها بقيادة جهاد الخازن وكان معه غسان شربل وعبد الوهاب بدرخان ووليد نويهض وغيرهم ، والحقيقة أن هذا الطاقم أخرج نموذجا جديدا وراقيا من الصحافة العربية ، كان طفرة حقيقية بمعايير ذلك الوقت ، وكانت وفرة المال بسخاء كبير مساعدا على الإبداع المهني ، ولم تمض أعوام قليلة على صدور الحياة حتى كانت النموذج الذي يحاول الجميع تقليده في الصحافة العربية ، فهو الأفضل بكل تأكيد ، وأذكر أني عندما زرت الأستاذ جاسم بودي في الكويت ، بصحبة المفكر المعروف الدكتور محمد العوضي ، وكان بودي وقتها قد اشترى صحيفة "الرأي العام" ، وبدأ الإعداد لإطلاق نسختها الجديدة ، وأتى بطاقم لبناني أيضا يتقدمهم علي بلوط وعلي الرز ، فكان كل تفكيره منصبا على الاقتراب من نموذج صحيفة الحياة اللندنية ، وعندما رأيت "بروفات" أعدادها التجريبية لاحظت أنه حتى رسم الصفحات الداخلية شبه مطابق لصفحات الحياة ، وعندما علم أني من كتابها دعاني على الفور لكتابة مقال في الرأي العام ـ التي تحولت بعد ذلك إلى : الراي ـ واستمر مقالي فيها حوالي ثماني سنوات .
لم أشعر بزهو وفخر لكتابتي في صحيفة مثلما كنت أشعر بكتابتي في صحيفة الحياة في ذلك الوقت ، لأنك كنت مدركا وقتها أنك تطل على القارئ العربي من المحيط إلى الخليج من قمة هرم الصحافة العربية ، وكان يشرف على صفحات الرأي وقتها وليد نويهض وكنت أحرص على زيارته في مكتبه كلما نزلت لندن ، وكان خلوقا متواضعا وصاحب بال طويل ، وكان يفرد لي أحيانا صفحة كاملة لنشر مقالة طويلة أو دراسة مصغرة عن موضوع ، رغم حداثة سني وقتها ، واستمرت كتابتي في الحياة عدة سنوات ، حتى بدأت الأمور تتغير ، ورحل وليد نويهض ، ورحل جهاد الخازن وآخرون وبدأ الوهج يخف ، وبدأت ظاهرة الفضائيات تنحت من جمهور الصحافة ثم تسلل الانترنت والمواقع الإخباربة ، لكن الحياة صمدت لفترة طويلة نسبيا .
أمس قررت إدارة صحيفة الحياة اللندنية التوقف عن الصدور ، والتحول إلى صحيفة الكترونية ، والاكتفاء بطباعة عدد محدود من النسخ في السعودية ، كما قررت غلق مكتبها في لندن والانتقال إلى دبي ، تقليصا للنفقات ، والحقيقة أن هذا الخبر آلمني كثيرا ، رغم إدراكي أن الصحيفة تراجعت كثيرا في السنوات الأخيرة ، لجمود مهني من جانب ، وهروب الكفاءات التي صنعت مجدها ، ولغياب وهج الصحف المطبوعة من جانب آخر ، وخاصة الصحف التي تتخذ طابعا دوليا وليس محليا ، لأن المواقع الإخبارية الالكترونية المؤسسة بشكل جيد والتي تتابع جديد الأخبار على مدار اللحظة وتوالي قراءها بالتحليل على مدار الساعة تكتسح هذا المجال بكل تأكيد ، فلم يعد هناك إلا قليل من القراء الذين ينتظرون 24 ساعة لكي يعرفوا ما تكتبه الصحيفة المطبوعة عن موضوع أو قضية .
طويت صفحة "الحياة اللندنية" ، الصحيفة التي كانت لا يمكن أن تغيب عن مكتب أي مسئول عربي كبير من المحيط إلى الخليج صباح كل يوم ، وأغلب الظن أنها ستصبح خلال وقت قصير تاريخا من التاريخ ، لكن التاريخ أيضا سيذكر لها أنها كانت تأسيسا لتقويم جديد في الصحافة العربية ، ما قبل الحياة وما بعدها .