الوطن
د. محمود خليل
«فى مقعد صدق»
لم ألتقِ مطلقاً بالأديب الدكتور أحمد خالد توفيق، لكن هل من الضرورى أن يقابل أحد كاتباً شحماً ولحماً حتى يعرفه؟. ثمة نوع أقيم وأرقى من المعرفة، يعتمد على اللقاء مع المبدع عبر ما يكتب، ذلك هو اللقاء الأروع، لقاء عقل بعقل، وروح بروح، وكذلك كان لقائى معه. دعنى أعترف أن واحداً من الأسباب المهمّة التى جعلتنى أهتم بمتابعة الكاتب الخطير أنه كان واحداً من قلة لم تهتز قناعاتها ولا مبادئها، ولا إيمانها بثورة يناير. كثيرون غيّروا جلدهم، جمهرة لا بأس بها من الكتاب سكنها الخوف فآثرت السلامة وأصبحت تتوارى، وهى تتحدّث عن الثورة المجيدة، اتقاءً لنعيق ونهش الجوارح التى تكالبت عليها بعد 30 يونيو 2013، لكن «خالد توفيق» ثبت بين قلة لم يهزمها الضعف أو الخوف أو الاستسلام لواقع لا يرونه جيداً، ودافعوا عن «حلم يناير».

يعيش الكاتب عمراً أطول من غيره، حسابات الزمن أغبى أنواع الحسابات التى يمكن التعامل بها فى هذا السياق. فعمر الكاتب لا يُحسب بالسنين، بل بالأثر الذى تركه فى نفوس قارئيه. أصحاب الفكر وحدهم هم القادرون على تغيير العالم، لكن ليس الجميع كذلك. فهناك من الكتاب من يسكن الحياة ويغرق فيها، فتنتهى حياته بانقضاء سنوات عمره، وهناك من يُفضّل سكنى التاريخ، ويجد فيه منزلاً ملائماً له. أحمد خالد توفيق ينتمى إلى هذه الفئة من الكتاب التى سوف تظل، بل قل إن وجوده سيصبح أقوى وتأثيره سيكون أشد بعد رحيله. الموت يمنح الأفكار روحاً جديدة، وسحراً خاصاً بين الأحياء. ولو استطعت أن تعرف خصال الكتاب الذين يسكنون التاريخ، فما عليك إلا أن تقف متأملاً لحياة الراحل.

أحمد خالد توفيق مبدع مستقل. المستقلون لا يعجبون «الشماشرجية» الذين يحبون الكتاب «الملاكى» أو «الأجرة»، لكنهم يُبهرون القراء كل الإبهار. والكاتب الحقيقى لا يرى قيمة لما يكتبه إلا لدى قارئه، ويجد أن تفاعل القراء معه بالموافقة أو الاختلاف هو الجائزة الكبرى التى يفرح بها. الباحث عن الحقيقة لا بد أن يكون مستقلاً عن أى سلطة. البحث عن الحقيقة والخضوع لسلطة، أياً كان نوعها خطان متوازيان لا يلتقيان. كيف يكون الكاتب مستقيماً مع قارئه وهو يخضع لقوة أعلى؟ تغريد الكاتب بعيداً عن القارئ خيانة، أعتقد أن تلك حقيقة عاش بها أحمد خالد توفيق. بإمكانك أن تتأكد من ذلك من مطالعة ما كتبه مجموعة من الشباب الذين عرفوه والذين قرأوا له، وكان الرباط المقدس الذى يربطهم به هو التغريد فى صميم حياتهم وفى قلب همومهم وأوجاعهم وفى أولويات تفكيرهم.

مواقف الراحل وكتاباته شاهدة على استقلاله. والاستقلال يولد الصدق. والصادق مع نفسه يصدّقه الناس. الكتاب المزيفون يظنون أن أعذب القول أكذبه، تماماً مثلما كان يفكر أجدادهم حين ردّدوا «أعذب الشعر أكذبه». الكاتب الحقيقى -خلافاً لهؤلاء- يؤمن أن «أعذب القول أصدقه». هنيئاً لأحمد خالد توفيق الحياة الصادقة التى عاشها، ورحمة الله عليه، وهو جالس «فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف