على هاشم
معا للمستقبل أغنية واحدة بـ 100 برنامج توك شو.. متي تنتبه الدولة لقواها الناعمة؟!
* في ذكري رحيل العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ تغمرنا سيرته برياحين الحب وأغانيه التي ذابت بها القلوب شوقاً وهامت بها الأسماع طرباً ولا تزال عذوبتها تصدح في الآذان ولا يزال صداها يطوف في قلوب المحبين..ورغم قصر عمر العندليب الذي رحل عن عمر يناهز 47 عاماً حيث غيبه الموت في الثلاثين من مارس 1977 بعد معاناة شديدة مع المرض ولاسيما البلهارسيا التي نهشت جسده. ناهيك عن فيروس c الذي لم يكن له علاج شافي في تلك الأيام.. و لو كان "حليم" بيننا اليوم وأظلته مبادرة الرئيس السيسي بتوفير العلاج المجاني للمصريين من ذلك الفيروس اللعين..هل كان سيمتع جمهوره بأغنية تمدح هذه المبادرة وصاحبها الذي أنقذ المصريين من خطر داهم حصد أرواح الملايين بلا رحمة ..كما أنقذهم من حرب أهلية كادت تعم البلاد إبان حكم الإخوان لمصر..؟!
* واحد وأربعون عاماً تفصلنا عن ذكري رحيل العندليب الأسمر الذي أسعد الناس كلهم في مصر والوطن العربي . بعطاء فني ثري تمثل في أفلام وأغاني لا تزال تتربع علي عرش القلوب التي غزتها بساطة وتلقائية فنان من طينة هذا الشعب الأصيل الذي لا تخطيء بوصلته هدفها. يعرف الصادق من الكاذب ويميز الغث من السمين ويعطي كل ذي حق حقه من الشهرة والمجد.
عاش العندليب ولا يزال في وجدان ملايين المصريين والعرب والإنسانية لا لشيء إلا لصدقه وإخلاصه لفنه ولوطنه» لم يقتصر إبداعه علي الأغاني العاطفية. وهي أكثر ما جذب الجمهور إليه في رأيي. بل قدم الأغنية الوطنية التي تناصر الدولة. وتشد من أزر القيادة السياسية في المفترقات الصعبة فكان لأغنياته تأثير لا يدانيه تأثير وقالت بضع كلمات بصوته ما عجزت عن توصيله مئات البرامج والمقالات والكتب.
ورغم بزوغ نجم العندليب في زمن العمالقة أم كلثوم سيدة الغناء العربي وكوكب الشرق وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش أمير التلحين والغناء وغيرهم لكن عبدالحليم شبانة وذلك هو اسمه الأصلي قبل أن يمنحه الإذاعي الكبير حافظ عبدالوهاب اسمه بعد اكتشافه موهبة "حليم" وتقديمه إلي الجمهور.. استطاع عبدالحليم أن يصنع مجده الفني وشهرته التي طبقت الآفاق وسط أساطين الفن وأعمدته الرئيسية الذين كانوا ولا يزالون "ملوك" الطرب والغناء والتلحين حتي يومنا هذا بلا منازع حتي يمكننا القول إنهم نخبة مبدعة لن تتكرر.
قدم العندليب مئات الأغاني وقد جمعها صديقه مجدي العمروسي في كتاب سماه "كراسة الحب والوطنية". وهي باقة ممتعة من الطرب الأصيل الذي استحوذ علي العقول والقلوب حتي أن كثيراً من جمهور العندليب كاد يصيبهم الجنون حينما سمعوا بنبأ رحيله.. وتلك في رأيي سابقة لم تتكرر من أحد من نجوم الطرب والغناء في مصر.
امتازت أغاني حليم بسهولة الكلمات وعذوبة الألحان وعمق المعاني وتلقائية الأداء , وقد منحها العندليب من روحه الجميلة ما جعلها تسحر الآذان وتؤجج المشاعر..ولم تكن أغانيه لوناً واحداً وإنما تنوعت فقد غني حليم للرئيس الراحل جمال عبدالناصر أغنية "إحنا الشعب" بمناسبة اختيار الشعب له رئيساً للجمهورية عام 1956. كما غني " حكاية شعب" بمناسبة وضع حجر الأساس للسد العالي في أسوان ..وفي العيد العاشر للثورة صدح بـ"مطالب شعب" وعندما وقعت نكسة يونيو كان الغناء سلاحاً لاستعادة الروح الوطنية فقد غني حليم "عدي النهار" و" أحلف بسماها وبترابها" والأخيرة كان يغنيها في كل حفلاته تقريباً حتي تحررت سيناء من دنس العدوان الإسرائيلي..وفي عام 1968 غني حليم "البندقية اتكلمت" وغني للانتصارات "عاش اللي قال" و" صباح الخير يا سينا"..وفي 1975 جري افتتاح قناة السويس أمام الملاحة الدولية بعد نصر أكتوبر العظيم وغني حليم "النجمة مالت علي القمر" و"عاش" و فدائي" و"ابنك بيقولك يا بطل" و"الوطن الأكبر"و" خلي السلاح صاحي".
ورغم الدور الوطني الملموس للغناء في ذلك الوقت واضطلاع حليم ورفاقه المبدعين بإسهامات فنية وطنية كبري ساعدت في تماسك الجبهة الداخلية والتفاف الشعب حول قيادته في تلك الأزمات فقد برع العندليب في أداء أغانيه العاطفية التي اكتسحت القلوب واحتلت الألسنة فمن ينسي "جبار" و"زي الهوا" و قارئة الفنجان" و "سواح" و"الحلوة" و" أي دمعة حزن لا" و" مداح القمر" و"موعود" و"صافيني مرة" و"بلاش عتاب" و" بأمر الحب" و"أبو عيون جريئة"؟!
ولم تكن الابتهالات الدينية أقل حظاً من غيرها في إبداع العندليب .فقد برع في أدائها بصورة أبكت العيون والقلوب ومنها "أنا من تراب" و"أدعوك يا سامع" و" رحمتك في النسيم" و"بيني وبين الناس" و"ورق الشجر" و"يا خالق الزهرة".
كان العندليب مدرسة فريدة متنوعة في الغناء. غني للحب وللحلم الوطني وللمشروع القومي..غني للدولة وللشعب وللشباب..وكان صادقاً في كل ذلك لم يصطنعه بل أداه بإحساس العاشق لفنه. المتفاني في إسعاد جمهوره المتعطش للحب ..غني للخير وللحب وللثورة والقدس والعروبة..ولم يترك مناسبة وطنية ولا قومية إلا وغني لها معبراً عن مشاعر الملايين وطموحاتهم .
ولم يكن مستغرباً ذلك الأثر القوي الذي تركته أغاني العندليب في النفوس» ذلك أن الأغنية كما السينما والمسرح والثقافة عامة قوة ناعمة وسفير حضاري بالغ الخطورة والأثر وما تحدثه في النفوس أغنية واحدة أو فيلم سينمائي أو مسرحية يفوق مئات المقالات والدعاية المباشرة »الأمر الذي ينبغي أن تلتفت له حكومتنا وتسعي إلي جعل الدولة مساهماً رئيسيا في إنتاج الأغاني والأفلام والفن الهادف الذي يمكنه أن يعيد صياغة وجدان المصريين ولا سيما الأجيال الجديدة ليغرس فيها القيم الحضارية والأخلاقية الرفيعة من نبذ للعنف وحب للتسامح وقبول الآخر وحب الوطن والولاء له وهي القيم التي صارت محل شك كبير في عصرنا الحاضر.
آن الأوان أن يأخذ التعليم الهادف والثقافة الرفيعة والفنون الراقية مكانها اللائق في حياتنا ,وأن تعود لحضانة الدولة لتخرج من رحمها وتحت رعايتها لتكون وسيلة إيقاظ للوعي وشحذ للهمم. وسفيراً للوطن في المحافل الدولية.
تري لو أن "حليم" كان بيننا اليوم فماذا كان سيغني لثورة 30 يونيو التي قام بها الشعب وانحاز إليها الجيش لتضع نهاية للمشروع الإخواني ..ماذا لو لم ينحز الجيش للشعب أو لم يتقدم السيسي ليضع روحه علي كفه غير مبالي بالفشل ولا بالمشانق التي تنتظره إذا أخفق لا قدر الله..ماذا كان "حليم" سيقول عن عام الإخوان وأحداث يناير وثورات ما سُمي بالربيع العربي التي جري استغلالها لتمزيق شمل الأمة واستنزافها بصورة غير مسبوقة..ماذا كان سيغني "حليم" عن أوضاعنا المؤسفة وهو الذي غني للقدس وللعروبة ..ماذا كان سيغني لخروج غير مسبوق للمصريين لانتخاب رئيسهم لفترتين متتاليتين دون جماعات مصالح تحركهم أو رشاوي انتخابية أو شعارات تدغدغ مشاعرهم كما فعل الإخوان أو نخبة تفرض وصايتها عليهم..خرج المصريون بكامل إرادتهم لينتخبوا السيسي حبا فيه وإيماناً بمصداقيته ومن أجل مستقبل أفضل رغم ما اتخذه من قرارات صعبة ظهرت تداعياتها في غلاء الأسعار وصعوبة المعيشة.
ظني أن حليم ورفاقه من عمالقة الغناء والتلحين والأشعار والكلمات لو كانوا بيننا لقدموا لنا أعمالا راقية ترصد وتعالج ما يحدث من ظواهر سلبية تسبب فيها بلا شك ضعف دور التعليم والأسرة وانحطاط الفن والدراما وخلوها من القيم الهادفة باستثناءات قليلة.
ومع تجدد ذكري العندليب سيظل السؤال: ما سر الحب الجارف الذي سري في قلوب الملايين لحليم ولا يزال موجودا حتي اليوم..وكيف لا تزال أغانيه تعبر عن أحوالنا ..والأهم كيف نجح حليم في إثبات وجوده وسط هذه الكوكبة اللامعة من عمالقة الفن والغناء حينذاك..كيف توهجت نجوميته في زمن قياسي فتربع علي عرش القلوب وشق طريقه إلي المجد والشهرة من أقصر الطرق..؟!
ظني أن الصدق هو أهم مقومات نجاح حليم . وثقته بنفسه وإخلاصه لفنه وجمهوره وانشغاله بإسعاد هذا الجمهور وليس بنجاح الآخرين ولا بالقيل والقال..
إن الفن الرفيع سلطان القلوب وسيظل هذا الفن وفي القلب منه الأغنية من أسس صياغة الوجدان والمشاعر والعقول تتساوي أهميتها مع التعليم وربما تتفوق عليه أحيانا بتشكيل مقومات الشخصية وتغذيتها بروح الوطنية والولاء ..وما النشيد القومي لأي دولة أو قومية إلا كلمات صدح بها صوت شجي تسلل إلي القلوب وصارت أيقونة وطنية تربت علي معانيها الأجيال ..
الأغاني الوطنية وسيلة مهمة في ترقية الشعور وتنمية الولاء وشحذ الهمم..ولا تنسي الأجيال التي عاصرت نصر أكتوبر أغنية بروح الانتصار وهي "بسم الله ..الله أكبر" التي كتبها ولحنها العملاق بليغ حمدي وغنتها مجموعة من مطربي الإذاعة المصرية ..ومن ثم فلا غني عن عودة الدولة لإنتاج الأغاني والأعمال الدرامية والسينمائية إن أردنا تربية الأجيال الجديدة علي القيم النبيلة والثوابت الوطنية حتي لا نترك عقل مصر وضميرها وقادة مستقبلها نهباً للعشوائية والفوضوية ومصالح رأس المال التي غيبت أجيالا عن واقعها ودمرت عقولاً لم تعد تصلح حتي لاكتساب قوت يومها ناهيك عن تربية أبنائها أو النهوض بوطنها.
التربية والثقافة والفنون هي أهم أدوات تشكيل العقول وبناء الشخصية . منها يكتسب المواطن الصغير ذوقه الفني وعشقه للوطن وثقافته وتاريخه وتتكشف مواهبه الكامنة ويتم من خلالها بناء الإنسان بصورة صحيحة في مختلف جوانب شخصيته الأخلاقية والدينية والفكرية حتي يصبح لحياته قيمة ومعني وهدف.
لاشك أن الساحة السياسية تغيرت في مصر وتغيرت معها كل شروط اللعبة وصار الشعب هو السيد يختار رئيسه وبرلمانه بكل حرية بعد سنوات عجاف من السيولة والتطاحن والاستنزاف والاستقطاب الحاد وتشويه الوعي وإهدار التماسك الاجتماعي واستهداف الجبهة الداخلية بعد فتنة الإخوان وانتهازيتهم وسطوهم علي الثورة والحكم في مصر بمعاونة الأمريكان وقطر وتركيا..وقد آن الأوان لاستعادة مصر لقواها الناعمة وهي أولوية ينبغي أن تتقدم علي ما سواها في أولويات الرئيس السيسي في ولايته الثانية إيماناً بفكرة الدولة الوطنية.. وأظنه قادراً علي عليها كما كان قادراً علي تثبيت أركان الدولة وتحمل مسئولية الحكم في مرحلة صعبة وخطيرة من ناحية الإرهاب وتآمر أهل الشر وتكالبهم علي مصر التي استعادت مع السيسي قدرتها وتوازنها وهاهي اليوم تبدأ مرحلة جديدة من الأمل والبناء وتحسين أحوال المواطن الذي هو الهدف الأسمي والركيزة الأولي في أي تنمية.