دخل المماليك مصر وغيرها من دول المنطقة العربية، باحثين عن وطن يحتويهم، كانوا غرباء دلفوا إلى المنطقة من كل حدب وصوب، مطاردين بعقدة العبودية وبيعهم كرقيق جلبهم إلى هذه البقعة من الأرض خلفاءُ الدولة العباسية ليستعينوا بهم كأدوات حراسة، بعد ضعف ثقتهم فى العرب!. فقد دأب خلفاء بغداد على جلب الألوف من العبيد من قبائل التركمان والمغول، واستخدموهم حرساً لهم ومادة لجيشهم بسبب عدم ثقتهم فى الجنود العرب، وخوفهم المستمر من الانقلاب عليهم، لكن «المجاليب» الجدد كانوا سبباً أساسياً من أسباب إنهاك هذه الدولة وسقوطها بعد ذلك. ولم يكن الخلفاء الفاطميون بالقاهرة المعزّية قصبة الديار المصرية بعيدين عن أسلوب تفكير خلفاء بغداد، إذ لجأوا هم الآخرون إلى استجلاب المماليك والاستعانة بهم وتدريبهم عسكرياً، وتمكينهم من حمل السلاح، ليكونوا سيفهم وسكينهم فى مواجهة من يعاركهم على كرسى الحكم، فإذا بالسكين ينغرس فى النهاية فى قلب الفاطميين أنفسهم لتزول دولتهم على أيدى المماليك.
كان المماليك عبيداً مجلوبين من أنحاء شتى من أواسط آسيا، لكنهم تحولوا -بفضل ذكائهم واجتهادهم- إلى سادة، بل وحكام للشعب الذى دفع ثمن شرائهم، بما كان يجمعه منه الخلفاء من ضرائب ومكوس. بدا الأمر طبيعياً للغاية، محكوماً بمعادلة إنسانية بسيطة ملخصها أن مَن يملك القوة والقدرة على استخدام «القوة» من الصعب أن يكون عبداً، ليس له إلا أن يصبح سيداً، لأن القوة أصل السيادة، لذلك تجد أن المصريين كثيراً ما عبّروا -وما زالوا يعبرون- عن قصة العبيد الذين تحولوا إلى حكام بقليل من الاكتراث، قناعة منهم بحقيقة أن القوة تعنى السيادة، وأن الضعف يعنى الخضوع. فكل من يمتلك أدوات السيطرة يصح أن يكون حاكماً، وكل فاقد لها من الطبيعى أن يكون محكوماً، لكن ذلك لا ينفى حقه فى التململ والضجر، والتعبير عنه فى شكل موجات اضطراب وعصيان للحكام، وفى اللحظة التى يشعرون فيها أن القوة أجدت معهم، تجدهم يسلكون مسلك الحكام، ويمارسون أفعال السلب والنهب كما يفعل المماليك.
وضع المماليك نقطة البداية فى قصتهم فى مصر فى عهد أحمد بن طولون. مع «ابن طولون» بدأ حلم الاستقلال بمصر التى أصبحت جزءاً من خريطة الخلافة الإسلامية قبل أن يحكم البلاد (عام 254 هـ) بما يزيد على قرنين من الزمان. وظلوا يتناوبون على حكم مصر وأراضٍ عربية أخرى كثيرة لعدة قرون، حتى تمكن «محمد على» من استئصال شأفتهم فى مذبحة القلعة. الطموح فصل أساسى تجده شديد التكرار فى قصص الحكم المملوكى، وكانت وسيلتهم فى الوصول من الحكم وتحقيق «مشروعهم» تتمثل فى الاستكثار من أدوات القوة، وكان مشروعهم يقع فى إطار فكرة «الدولة القوية». وهى فكرة غالباً ما كانت تبدأ بحلم وتنتهى بمحاولة لا تتم فى الأغلب. وكأن قصة الدولة القوية مكتوب عليها أن تظل حلماً يسعى إليه مَن يحكم هذا البلد، وتبقى النهايات دائماً معلقة أو مفتوحة، لتستدعى من الذاكرة صور القصص التى لا تتم.