قبل أسبوعين ناقشتٌ فى هذا المكان بدايات تغير السياسة الخارجية العراقية فى اتجاه تحقيق التوازن بين علاقات العراق العربية من جهة وعلاقته بإيران من جهة أخري. وقلت إن هذا التغير مع أهميته إلا أن استمراره يرتبط بحل عقدة العلاقات السعودية - الإيرانية، وإنه من أجل حل هذه العقدة طُرِحت مبادرة للحوار السعودى - الإيرانى يرعاها العراق مع كل من مصر وتركيا. بطبيعة الحال يبدو أفق العلاقات السعودية - الإيرانية مُلبدا تتكاثر فيه الغيوم وآخرها إطلاق الحوثيين دفعة جديدة من الصواريخ على العمق السعودى وتقدم السعودية من جهتها بشكوى لمجلس الأمن ضد إيران، ومثل هذه الغيوم تقلل من فرص التجاوب مع الدعوة لتحاور الطرفين، لكن هذا لا يمنع من الاستمرار فى تأكيد على أهمية هذا الحوار الذى يرتبط قيامه ونجاحه باستقرار الأوضاع فى العراق واليمن ولبنان ونسبيا فى سوريا.
ويناقش هذا المقال جانبا آخر من جوانب التغيير يتعلق هذه المرة بالداخل العراقي، وقبل الشروع فى تحليل هذا الجانب من المهم التأكيد على نقطتين أساسيتين، إحداهما أن اقتراحات التغيير الداخلى يرفعها بعض القوى والتيارات السياسية العراقية وتتفاعل معها إيجابيا قطاعات من الشارع العراقي، أى أنها تنبثق من الداخل وهذه ضمانة جزئية لحماية التغيير بعد أن اتضحت مساوئ الصيغة الأمريكية للديمقراطية. والأخرى أنه كما أن للتغيير الداخلى مؤيديه فإن له أيضا خصومه، أى الأطراف التى تستفيد من الوضع القائم وتتأثر مكاسبها بحدوث التغيير، وهذا يؤثر على فرص النجاح. وهكذا فإنه من التفاعل بين اتجاهات التغيير واتجاهات الاستمرار يتحدد مستقبل الداخل العراقي.
ثمة اقتراحات لتغيير شكل نظام الحكم من البرلمانى إلى الرئاسي. وفى هذا الإطار تبنت مظاهرات عام 2015 عدة مطالب من بينها إقامة نظام رئاسي. ولعل مؤيدى هذا النظام قد ملّوا من المصاعب التى تكتنف تكوين الحكومات الائتلافية المتعاقبة، وهى مصاعب مرشحة للتفاقم فى الفترة المقبلة بسبب تفكك القوى السياسية العراقية. فهذا التفكك لم يطل فقط الكتل الكبرى الشيعية والسنية والكردية لكنه طال حتى مكونات كل كتلة على حدة، ولا ننسى أن القانون الانتخابى الحالى يسمح للحزب الواحد بأن يدخل الانتخابات بقائمتين متنافستين. وفى ظل هذا التفتت سيصعب على قائمة واحدة أن تحصل على 50% + 1 وسوف تمتد مشاورات تشكيل الحكومة لعدة شهور. ويضيف ناقدو النظام البرلمانى أن معظم القضايا التى تُعرض على مجلس النواب العراقى يتم حسمها خارجه بين الكتل السياسية مما يُضعِف عمليا من دور البرلمان الذى هو رمانة الميزان فى النظام البرلماني. وعلى الرغم من أن هذه الانتقادات حقيقية فإن التحول إلى النظام الرئاسى قد لا يحظى بتأييد كبير خوفا من إعادة إنتاج نموذج صدام حسين، وربما كحل وسط يمكن التحول إلى النظام المختلط، ويعد هذا بالفعل أحد الحلول المطروحة فى العراق وجوهره تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية بحيث يكون لدينا برلمان قوى ورئيس جمهورية قوى كما هو الحال فى النظام الفرنسى مثلا. عموما فسواء تم التوافق على التحول للنظام البرلمانى أو للنظام المختلط فإن خطوة تعديل الدستور تحتاج الاشتغال عليها والتمهيد لها.
الأهم من تغيير شكل نظام الحكم هو التحرر من المحاصصة الطائفية التى قامت على أساسها العملية السياسية كما خطط لها بول بريمر ولا يوجد لها سند فى الدستور، لكنها نشأت وتكرست وبمقتضاها احتفظ الأكراد بموقع رئيس الجمهورية، والسنة بموقع رئيس مجلس النواب، والشيعة بموقع رئيس الوزراء. وبالإضافة إلى العيوب الكامنة فى نظام المحاصصة الطائفية فى حد ذاته لأنه يقوى انتماء الفرد لطائفته حتى على حساب انتمائه الوطني، فإن هذه العيوب تزيد أكثر مع جمود التوزيع الطائفى للمناصب، إذ ليس من المفهوم مثلا لماذا يذهب منصب رئيس الدولة دائما للأكراد، ولا لماذا يختار النواب دائما رئيسا سنيا لمجلسهم. بل إنه داخل هذه المحاصصة العامة نشأت محاصصة فرعية جعلت منصب رئيس الوزراء الشيعى يذهب دائما لحزب الدعوة من أول إبراهيم الجعفرى مرورا بنُّورى المالكى وانتهاء بحيدر العبادي. وفى مواجهة هذا الوضع يرد اقتراحان أساسيان، الاقتراح الأول يتعلق بتدوير رئاستى البرلمان والدولة بحيث تتولى شخصية سنية رئاسة الجمهورية وتذهب رئاسة البرلمان للأكراد. ومع أن هذا التعديل يمكن أن يضعف من دور السنة فى عملية صنع القرار بحكم شكلية منصب رئيس الجمهورية فى النظام البرلمانى المعمول به حاليا فى العراق، إلا أن وصول شخصية سنية إلى منصب رئاسة الدولة بعد خمسة عشر عاما من مغادرته فى عام 2003 هو أمر له دلالة رمزية كبيرة. والاقتراح الثانى يتعلق بتشكيل حكومة تكنوقراط وهذا اقتراح جديد/ قديم تبناه كل من عمار الحكيم ومقتدى الصدر، ونادت به مظاهرات 2015. لكن حتى الآن مازال العراق غير مهيأ للأخذ بهذا الإقتراح فأبرز الفاعلين فى المشهد الحالى لهم خلفيات سياسية واضحة بما فى ذلك رئيس الحكومة، وعندما حاول حيدر العبادى تنفيذ الاقتراح فى عام 2016 أخذ به بشكل جزئى بمعنى أنه قام بتطعيم حكومته الحزبية ببعض شخصيات تكنوقراطية. وربما المتاح الوحيد فى حدود الأمد المنظور هو إخراج منصب رئيس الوزراء من عباءة حزب الدعوة.
من جوانب التغيير الأخرى البالغة الأهمية ما يتعلق بمكافحة الفساد، والعراق يحتل موقعا متأخرا فى كل التقارير المتعاقبة لمنظمة الشفافية العالمية، ففى آخر هذه التقارير لعام 2018 جاء العراق فى المرتبة 169 من أصل 180 دولة يشملها مقياس الفساد. والملاحظة موضع الإشارة فى هذا الخصوص لا تتعلق فقط باستشراء الفساد على نطاق واسع فى العراق، ولا بظاهرة الإفلات من العقاب رغم صدور أحكام قضائية بالإدانة، لكنها تتعلق بأن بعضا من الرموز السياسية المتهمة بالفساد رشحت نفسها لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة وقد تفوز وتجد طريقها إلى مجلس النواب، كما وجد غيرها طريقه إلى مؤسسات أخرى فى الدولة. ومثل هذه القضية تحتاج إلى درجة عالية من الحكمة فى مواجهتها، وهى بالتأكيد ليست هيّنة وسوف تواجه مقاومة شرسة من مراكز الفساد السياسى لكن لا مناص منها، فالسكوت عنها يراكم الغضب الشعبى فضلا عن إهدار أموال الدولة وهى تقبل على مرحلة البناء.
باختصار فإن الحاجة إلى التغيير الداخلى فى العراق تفرض نفسها، فهل تبدأ إرهاصات التغيير انطلاقا من الانتخابات البرلمانية فى مايو 2018؟ دعونا ننتظر لنرى.