الأهرام
سمير مرقص
الأب جورج مسوح: إشراقة ستظل مضيئة
لا مكان عندنا للاهوت منقطع عن واقع الناس ومشاكلهم. فالمطلوب ألا ينقطع خطابنا اللاهوتى عن السياقات المحيطة بنا وعمن نعيش معهم فى تواصل دائم. التقوقع وترداد الكلام واجتراره، والتحدث كأن الآخر غير موجود أو مُقصي، أو كأن وجوده لا يعنينا، ولا يهمنا ولا يسائلنا ولا يتحدانا. كل هذا مسيء للاهوتنا، وهذا يجعل خطابنا، ويجعلنا تاليا، بلا فاعلية...

تلخص الكلمات السابقة «الروحية الحاكمة» التى عاش مخلصا لها الأب جورج مسوح(1962 ــ 2018). كان أبونا مسوح ــ كما كنا نحب أن نناديه والذى رحل عن دنيانا فى الأسبوع الماضى أحد أهم اللاهوتيين والمفكرين الذى تقدموا الساحتين الدينية والثقافية فى العقدين الأخيرين ،حيث ترك «خيرات كثيرة»: قيمية وفكرية وعملية لمحبيه فى لبنان وخارجه... من هذه الخيرات نشير إلى بعض منها...

أولا: قدم نموذجا حيا لرجل الدين المُلتزم بخدمة الإنسان، أى إنسان دون تمييز، فى أى وقت وفى أى مكان. فلقد كان شغله الشاغل وهمه الدائم هو الإنسان. فما معنى ترديد أن «الله محبة» أو «الله رحيم»؛ إن لم تنعكس المحبة والرحمة، عمليا، فى حياة الناس. وذلك بأن «نطعم الجوعي، ونسقى العطشي، ونأوى الغرباء، ونستر العرايا، ونعاود المرضي، ونزور من فى الحبس»...ويكفى أن تزوره فى كنيسته «بعالية» فى جبل لبنان وتشاهد تواصله المؤثر مع رعيته التى تتبع كنيسة انطاكية للروم الأرثوذكس، كذلك تواصله مع الحضور الدرزى فى المنطقة. لم يمارس يوما دور رجل الدين «المتسلط» بل كان بحق «خادما» للآخرين دون تمييز.

ثانيا: كان واعيا تماما «بالسياقات»: اللبنانية والعربية والدولية. والكنسية والسياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وإلى أى مدى مأزوم وصلت إليه هذه السياقات من: طائفية، وتخلف، وتبعية. ما انعكس على «الناس» وعلاقاتهم وأحوالهم. ولكنه أبى أن يقبل بالأمر الواقع، وكأنه «قدر» علينا القبول به. فلقد آمن بأن هناك مسئولية على كل إنسان باعتباره: صورة الله أو خليفة الله؛ فى تغيير الواقع أو السياق نحو الأفضل، حيث العدالة والسلام والمحبة. إنها المسئولية التى يقينا ــ سوف تستحضر الكثير من الخيرات الإلهية، التى وعد بها الله البشر فى الأبدية، ونحن بعد على الأرض. فكانت حياته وعظاته وكتاباته تسير فى هذا الاتجاه بهدوء وثقة وفرح...

ثالثا: ونظرا لأن بلادنا تتسم بالتعددية بمختلف أشكالها: الدينية والعرقية والثقافية والكنسية. آمن أبونا مسوح بأن الحوار لابد أن يكون دعوتها الأولى وتحديها الأكبر. وعليه، اعتمد الحوار نهجا فى حياته. حوار «منفتح، لا يقصى أحدا». حوار يؤسس لأخوية مسكونية بين المسيحيين ولشراكة وطنية مع المسلمين تكون من نتائجه حركية مجتمعية توجه فى سبيل الخير العام. ولأن أباونا مسوح يعى ما حل بالعلاقات بين المختلفين من جراء الحروب والتوترات والظروف البائسة التى مرت ببلداننا لسبب أو لآخر. ولكنه يلح على ضرورة تجاوز الواقع الأليم مذكرا بأن المؤمن الحقيقى لا يرى فى أى إنسان عدوا، بل يراه أخا يسير معه فى الحوار وتبادل الخبرات من أجل إعمار الدنيا والمجتمع والوطن. وذلك دون تفريط أو إفراط مع التزام الصدق والاستقامة.

كانت الخيرات السابقة أهم ما ميز أبونا مسوح والتى تنم عن محصلة جهد روحى شخصى وتحصيل معرفى أكاديمى بدأ بحصوله على الليسانس والماجستير فى اللاهوت من معهد القديس سرجيوس بباريس (أحد أهم المعاهد اللاهوتية فى العالم) عام 1992. ثم حصوله على الدكتوراه فى الدراسات الإسلامية من المعهد البابوى للدراسات العربية والإسلامية فى روما، التابع للفاتيكان، عام 1997. ما أهله ليكون استاذا فى قسم الحضارات والثقافات فى جامعة البلمند. فجمع أبونا مسوح بين العمل الرعوى والأكاديمي...وكان كل منهما يدعم ويغذى الآخر... لقد كان الأب جورج مسوح ــ بإجماع الكثيرين ــ علامة فارقة فى الفكر المسيحى اللبنانى والعربى والمشرقى المعاصر...وأحد إشراقات جيلنا.

وفى هذا المقام، نشير إلى كتابيه: «الخيرات الآتية». و«الآن وهنا». كذلك الندوات المهمة التى نظمها عندما شغل منصب مدير مركز الدراسات المسيحية الإسلامية فى جامعة البلمند والتى ناقشت موضوعات مثل: الدين والدنيا فى المسيحية والإسلام. والدين والعولمة، والتعددية. والنظرات المتبادلة بين المسيحيين والمسلمين فى الماضى والحاضر، بحضور كوكبة من أهم مثقفى الوطن العربي. كما أسس دورية باسم: «المرصد» تعنى بالواقع من منظور لاهوتى وفكري. بثقة وإيمان واجه أبونا مسوح الآلام وكتب فى مواجهة الموت بأن أفضل استعداد له بالإضافة إلى التوبة تكون: بمحبّة القريب التى من دونها لا يمكن أن يكون الإنسان محبًّا لله... وبعد، رحم الله الأب جورج مسوح الذى عرفته نهاية التسعينيات عندما كنت أشغل منصب الأمين العام المشارك لمجلس كنائس الشرق الأوسط وتوطدت علاقتى به على المستوى الشخصى والانساني، وكان نعم الأب والأخ والصديق فى وقت صعب. وتشاركنا عضوية الفريق العربى للحوار الإسلامى المسيحى على مدى عقدين من الزمان. لقد كان الأب جورج مسوح «إشراقة» حقيقية فى وجه «الظلمة الزاحفة إلى شرقنا» ومنطقتنا وبلداننا، لن تنطفئ أبدا...
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف