د. سليمان عبد المنعم
«الوطنية المصرية».. نقاش الحقائق والمخاوف (1/5)
ثمة حالةٌ نعيشها منذ سنوات تُعلى من الوطن وتُقدّم كل القيم التى تنتسب إليه وتتفرع عنه مثل الانتماء الوطنى، والحلم الوطنى، قبل القيم الفردية الأخرى. تنامت هذه الحالة الوطنية بتأثير مخاطر الإرهاب ومحاولات تفكيك الجغرافيا السياسية لبعض الدول العربية من ناحية، وتعاظم دور المؤسسة العسكرية من ناحية أخرى. وسواء حظى هذا الدور بتأييد البعض أو انتقاد البعض الآخر فإن هذا الاختلاف لم ينتقص من رمزية الجيش وصورته المجلّلة بالاحترام لدى عموم المصريين. اقترنت هذه الحالة الوطنية باحتفاليات مثل رفع العلم المصرى على واجهات البيوت وفى الشوارع والسيارات، وانتشار الأغانى الحماسية والعاطفية التى تحيى الوطن وتتغنى بالجيش. يضعنا هذا المشهد أمام سؤال: هل نحن أمام «وطنية مصرية» جديدة تعيد اكتشاف ذاتها وتمثل رؤية سياسية لنظام الحكم، وتياراً جماهيرياً، وأيديولوجية يؤمن بها النخب والمثقفون أم أن الأمر لا يتجاوز كونه حالة إعلامية أوعاطفية مؤقتة لاستقطاب الناس وإيقاظ شعورهم الوطني؟ والسؤال الأهم الذى يشغل البعض هو هل «الوطنية» نزعة عنصرية أو فاشية تتعارض مع الانتماء الإنسانى للفرد؟.
من المفيد ابتداء تأمل النماذج المقارنة للنظم الوطنية السلطوية والأحزاب الشعبوية الغربية قبل مناقشة «الوطنية المصرية الجديدة» محور الاهتمام الأصلى فى هذه المقالات لا سيما والبعض يرى وربما يحذر من خطر تماهى الوطنية المصرية مع هذه النماذج. واقع الأمر أن النماذج السابقة للوطنية الألمانية أو اليابانية أو الإيطالية فى القرن الماضى لم تكن ناجحة بل كارثية النتائج، لكن تفسير هذه الكارثية متفاوت إذ يمكن إرجاعها إلى محاولات تمددها العسكرى خارج الحدود وغزو واحتلال بلدان أخرى، ويمكن إرجاعها أيضاً إلى أن الفاشية التى اتسمت بها هذه النماذج الوطنية هى سبب انهيارها الداخلى الذى عجّلت به الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك فالقياس على هذه «الوطنيات» فى الثلث الأول فى القرن العشرين لا ينفى أن هناك «وطنيات أخرى» بدت أكثر تطوراً ونجاحاً وذكاء فى الاستفادة من أخطاء الآخرين أبرز نماذجها اليوم «الوطنية الصينية». فالصين وبرغم انفتاحها على الغرب والعالم كله قد نجحت بدهاء فى امتطاء حركة العولمة وتوظيف ما أتاحته من وسائل وآليات ليبرالية التجارة الدولية، ونقل ثم توطين التكنولوجيا، وعدم الانخراط فى صراعات إقليمية أو دولية. لكن العولمة بكل اختراقاتها الناعمة لم تنل من تماسك الدولة الصينية، والتى نجحت منذ أحداث عام 1988 فى الحفاظ على الدولة الوطنية السلطوية التنموية وجمعت بين هذه الركائز الثلاث فى نسيج فريد يضاهى عراقة نسيجها الحريرى الشهير. لم يأبه النموذج الوطنى الصينى بإزعاجات وإرباكات الآخرين فمضى بثبات يقدّم حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية على ما عداها من حقوق سياسية أوتداول للسلطة خارج مقاليد الحزب الشيوعى الصينى.
كل المظاهر الغربية التى طرأت على المجتمع الصينى يجب ألا تخدعنا وتجعلنا نعتقد أن الصين قد فرّطت فى شخصيتها ونزعتها الامبراطورية القديمة، ربما أصبحت الصين ترتدى ثوباً غربياً لكن تحت هذا الثوب ما زال الجسد صينياً حتى النخاع والروح صينية بنقاء. كل العلوم والآداب تُدرّس فى الجامعات الصينية باللغة الصينية، أفلام السينما والأغانى وأسماء المحال والمتاجر باللغة الصينية وحدها. لكن «الوطنية» السلطوية لم تكتف بأن تجعل الصين ثانى أكبرقوة اقتصادية على سطح الأرض بقيمة تجاوزت 12 تريليون دولار، لكنها سبقت الولايات المتحدة الأمريكية لتتصدّر دول العالم من حيث صادراتها الإبداعية والثقافية بقيمة بلغت 85 مليار دولار وفقاً لتقرير منظمة UNCTAD الصادر منذ عدة سنوات. الوطنية الصينية تقدم إذن نموذجاً ناجحاً وربما مربكاً لمن يعتبرون أن الوطنية تتماهى بالضرورة مع الانغلاق والتعصب والشوفينية. أما «الوطنيات» التى ترفع لواءها بعض الأحزاب والحركات السياسية فى المجتمعات الغربية فالملاحظ أن الجانب «الشعبوى» فى هذه الأحزاب يطغى على المكوّن السياسى والفكرى بمعناه الأصيل. ولولا حركات الهجرة من دول الجنوب إلى دول الشمال، ومن دول الشرق إلى دول الغرب، ولولا تصاعد المخاوف من الإرهاب لما نجحت الأحزاب اليمينية المتطرفة فى استقطاب الجماهير حتى أصبح حزب «البديل» الألمانى القومى ثالث أكبر الأحزاب الألمانية فى الانتخابات الأخيرة، ولما حصلت حركة النجوم الخمسة الإيطالية على 32% من الأصوات فى انتخابات البرلمان الإيطالى منذ أسابيع.