فى جمعة حاشدة ثانية، تواصلت فعاليات مسيرة العودة إلى فلسطين المحتلة.. على السياج الفاصل بين الحدود الإسرائيلية - الفلسطينية، وقفت سيدة تقول: «إحنا بقى لنا سنين فى المفاوضات أخدنا إيه؟.. الشعب مضحوك عليه.. ولازم هو اللى يتحرك». امرأة فلسطينية بسيطة قالت الحقيقة الوحيدة التى ينبغى أن يؤمن بها الشعب الفلسطينى. شكر واجب لا بد أن نُوجّهه إلى «ترامب». فعندما اتخذ الديك الأمريكى قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، فهم الشعب الفلسطينى الحقيقة، وآمن بأن حل القضية فى يده هو وليس الحكومات. يستوى فى ذلك حكومة «فتح» مع «حماس» مع الحكومات العربية.
عندما اتّخذ «ترامب» قراره الخاص بالقدس عبّرت حكومات عربية تعبيراً مرتخياً منكسراً عن شجبها وإدانتها. رد الفعل الأردنى كان الأقوى، وكذلك رد فعل محمود عباس أبومازن. ردود الأفعال القوية من هذين الطرفين مبرّرة. فالترتيبات التى تُعد للمنطقة تمهيداً لصفقة القرن لن تستفيد منها الأردن كثيراً، بل ربما تسبّبت فى خسائر مباشرة لها، قد تتكشف عنها الأمور حين الإعلان عن تفاصيل الصفقة. أما محمود عباس أبومازن فلا يملك بحال قبول القرار الأمريكى، وكذلك بعض التفاصيل التى تم تسريبها حول الصفقة. ليس أمام «أبومازن» سوى التشدّد، وقد أدى طبقاً لذلك. الرجل أمام اختيارين أحلاهما مر، فإما أن يرفض وهو يعلم التهديدات باستبداله بغيره، وإما أن يقبل ويقف فى المواجهة مع الشعب الفلسطينى الرافض لمخططات الحل الأمريكى للمشكلة. اختار «عباس» الرفض، عملاً بمعادلة «كده خسرانة وكده خسرانة». حسابات المصالح حكمت من تشدّدوا من الحكام العرب فى رفض قرار «ترامب» ومخططاته، وكذلك من تعاملوا برخاوة مع ما حدث، لكن حسابات الشعوب تختلف.
الشعوب تتحرّك بحسها الفطرى ووعيها بطبيعة المواقف، وكذلك يفعل الشعب الفلسطينى الذى رأى أنه أصبح محلاً للبيع والمقايضة فى أسواق العرب، فقرّر التحرّك بسواعده ليواجه مشكلته، عملاً بقاعدة «فتول أنت جميع أمرك». السيدة الفلسطينية لخّصت المسألة فى عبارة «الشعب مضحوك عليه»، لكنه استفاق وتحرّك، وكذلك الشعوب دائماً، إنها تصمت وتراقب، وتترك لنفسها حق تحديد الوقت المناسب، لكى ترد على ما يُحاك ضدها. وهى فى كل الأحوال قادرة على حسم الأوضاع على الأرض. لعلك تذكر ما سبق وكتبته حول الموعظة التى شنّف بها الناطق بلسان جيش الاحتلال آذان الفلسطينيين حين حدّثهم عن تحريم الإسلام للمظاهرات، ونُصح القرآن للمسلم بألا يلقى بيديه إلى التهلكة. إنه خطاب موجّه إلى الشعوب، ويمثل محاولة ساذجة من جانب دولة الاحتلال لتهدئة المواطن الفلسطينى، حتى لو تم الأمر بالاستخدام الزائف والمراوغ للمعانى الدينية. إنها محاولة مشوهة لاستدراك الأمر والتعامل طبقاً للحقيقة التى أدركها الإسرائيليون، وسيدركها الأمريكان بعد ذلك من أن الشعوب أمست خارج سيطرة الحكام. المواطن الفلسطينى اليوم هو الذى يرسم الخرائط على الأرض. وفى ظنى أن فعاليات مسيرة العودة سوف تشكل حائط صد قوياً ضد صفقة القرن، ومستقبلاً سوف تمثل مفتاحاً من المفاتيح الأساسية لإدارة أى حوار حول القضية الفلسطينية.